قراءة في المشهد السياسي لسوريا وجوارها الإقليمي

قبل أيام قليلة من نهاية 2023 وقّع الرئيس الأميركي جو بايدن على مشروع قانون السياسة الدفاعية بمبلغ قدره 886 مليار دولار، وثمة آراء تشير إلى أن المبلغ الحقيقي الذي تم تخصيصه لهذا الغرض أكبر بكثير من الرقم المعلن، مما يعني بأن العالم باسره مقبل على حروب جديدة، واستنزافات مستمرة في الكثير من بؤر الصراع القائمة مثل ( الحرب الروسية – الأوكرانية، والأزمة السورية، وإيران وبرنامجها النووي ومشروعها التوسعي والميليشيات الولائية المنفلتة في العراق و اليمن ولبنان، والحرب في غزة، والحرب ضد داعش … إلخ .) ، وربما توسيع نطاق الحروب والصراعات بإضافة مواقع جديدة لتلك البؤر.
لهذا يمكن اعتبار عام 2023 من بين الأعوام الأكثر سوءًا على كافة الصعد الدولية والاقليمية، وخاصة المحلية لجهة تهميش القضية السورية، والإبقاء على الصراعات البينية، والانقسامات الميدانية والمجتمعية، وزيادة معدلات الفقر، ما يعني دفع البقية الباقية من السوريين إلى الهجرة نحو دول الشتات، لهذا يجيز لنا القول أنه خلال العام الفائت كانت الأحداث والمحطات برمتها مؤلمة ومأساوية، خلفت المزيد من القتل والدمار والخراب، ورفعت منسوب الكراهية إلى مستويات مخيفة تنذر بمستقبل ملؤه العنف والصراعات بين مختلف المكوّنات على حساب البناء والسلام والتعايش المشترك .
صحيح أن عام 2023 قد مضى، لكن تداعياته السلبية لم تنتهِ، وستدوم لمرحلة زمنية أخرى، وما صدر من جانب بعض اللاعبين من تصريحات بشأن الأزمة السورية تشير بوضوح إلى أن النزيف السوري سيستمر خلال العام الجديد، وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على انتخابات رئاسية وبرلمانية مصيرية، مما يعني أن الأزمة ستتشابك خيوطها وتتعقد أكثر فأكثر ، قد تكون هناك ترتيبات معينة، لكن سيبقى دور السوريين محصورا ضمن الدوائر الهامشية نفسها، وأن القضية السورية التي تتقاذفها مصالح المتدخلين ستبقى في بازار المقايضات بين اللاعبين المتورطين في مستنقعها وأصحاب القضية سيبقوا مغيبين عن تفاعلاتها .
وبسبب ضعف مؤسسات الأمم المتحدة وغياب دورها فإن الإرادة الأممية ستبقى غائبة وخجولة لجهة السير نحو عملية سياسية سورية – سورية برعاية أممية وفق بيان “جنيف 1” لعام 2012 والقرارات الدولية ذات الصلة ولاسيما قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 . ممّا يُفهم بأن مبدأ إدارة الأزمة سيبقى فاعلاً وأن الانقسام والعنف سيستمران على حساب الحلول السياسية الواقعية . والجميع بات على يقين تام بأن سوريا باتت تعاني من انقسام مجتمعي حاد بدأ مع ولادة البعث الذي عمل على ترسيخ الانقسام وتهميش مكونات سورية أصيلة منذ انقلابه في آذار 1963، ولكن مساحات هذا الانقسام ازدادت اتساعاً وظهرت بشكل أوضح بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية السلمية في منتصف آذار 2011 تزامناً مع ما سميت بثورات الربيع في المنطقة . ويعلم المراقب للوضع السوري كيفية استغلال الحراك السلمي من جانب قوى التطرف الطائفي واستدراجه بالتعاون مع الأجهزة الأمنية للنظام إلى مستنقع العنف المسلح بعد أن طغت أصوات البنادق على صوت الحراك الشبابي الثائر ،إلى جانب طغيان الطائفية المقيتة على الوطنية الجميلة، وقد تبين أن مجموعة ما تسمى بأصدقاء الشعب السوري بغالبيتها كانت الأكثر نفاقاً وخذلاناً تجاه السوريين وقضيتهم ، حيث تحولت سوريا إلى مزرعة للميليشيات المسلحة المنفلتة، وبات المشهد اليوم أكثر تعقيداً، لأن البلد تحول إلى أخطر بؤرة لإنتاج التطرف والمخدرات في المنطقة وبالتالي أصبح مصدر قلق للأطراف المتورطة نفسها.
أما المعارضة السياسية فقد فقدت إرادتها وقرارها الوطني بشكل كامل، وتشظت إلى أجزاء متناثرة – متحاربة وموزعة على الدول المانحة للمال السياسي، دون أن تمتلك أي مشروع وطني تغييري شامل، يساهم بشكل أو بآخر في دعم وتسهيل عملية الانتقال السياسي في سورية، وقد انعكس هذا الواقع المتردي على أداء المعارضة المسلحة أو ما يسمي بالجيش الوطني الذي كسب احترام الحراك الثوري في البداية، لكن سرعان ما تحول بدوره إلى مجرد أداة بأيدي المانحين الدوليين، ولم يبق منه اليوم سوى بعض المجاميع الطائفية المناطقية المسلحة والمتقاتلة، همها التعفيش والنهب والسلب والخطف والارتزاق، ويتغلغل في صفوفه قيادات جهادية راديكالية ، وتحولت مناطق سيطرته إلى مزارع وإقطاعات لأمراء تلك المجاميع، وباتت المعارضة اليوم في حالة يرثى لها حيث فقدت الاهتمام الدولي والإقليمي، وتتجه شيئاً فشيئاً نحو الإفلاس الجماهيري وكذلك الأمر بالنسبة للنظام فبعد كل هذا الدمار والقتل والتهجير لم يتمكن من تغيير ذهنيته، والمحزن حتى ما يسمى بالمسار الثالث أوالمجتمع المدني حاله ليس أفضل من حال المسارين المذكورين حيث بات موزعاً هو الآخر على خندقي النظام والمعارضة ويحمل نفس الأمراض، ولا يمتلك رؤية مختلفة عن الطرفين المتقاتلين والمتصارعين!. باختصار المشهد السياسي مربك ومعقد ومتداخل و سوداوي سمته استمرارية المعاناة، وغياب الحلول السياسية الحقيقية. وسط انقسام البلد فعلياً إلى ثلاث مناطق نفوذ رئيسية شبه مستقلة، لكل منها نظامها الصحي والتعليمي الخاص وإداراتها المختلفة وقوانينها المستقلة وقواها الأمنية والمسلحة ونظامها الجمركي …إلخ . والمؤسف أن الأزمة السورية سوف لن تكون ضمن قائمة الأولويات الأمريكية خلال العام الجديد لأسباب سياسية واخرى انتخابية تم ذكرها ، بالرغم من أنها ما زالت تؤكد ” نظرياً ” على ضرورة إيجاد حل سياسي وفق القرار الأممي المذكور ولكن على الأرض لم يتغير دورها، باختصار يمكن تلخيص الرؤية الأمريكية تجاه سوريا في ثلاث محددات أساسية ، الأول إنساني يقتصر في استمرار تدفق المساعدات الإغاثية إلى الداخل السوري، والثاني إعلامي – نظري يهدف إلى رفع مستوى مشاريع التعافي المبكر بهدف إطالة أمد الأزمة وتجميدها، والثالث محاربة تنظيم داعش الإرهابي ومنع ظهوره مجدداً من خلال تجفيف منابعه ومصادر تمويله .
أما روسيا فما زالت مشغولة بحربها في أوكرانيا إلى جانب عدم اكتراثها ببقاء الأسد في السلطة .في الوقت ذاته تحاول تركيا الاستمرار في تهديدها بإجتياح عسكري لمناطق شرق الفرات طالما أن كوادر العمال الكردستاني باقية في هذه المناطق. في نفس السياق تؤكد مصادر غربية مطلعة أن دول الاتحاد الأوربي سوف لن تشارك في عملية إعادة الإعمار في سوريا طالما الأسد باقٍ في السلطة .
في سياق متصل يواصل جيش النظام قصفه لمناطق شمال غرب سوريا سيما المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة السورية ، وكذلك يواصل الجيش التركي قصفه لشمال شرق سوريا في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ، والمشترك بين مختلف تلك المناطق أن المدنيين هم أكثر الضحايا والمتضررين . وهنا من الأهمية التأكيد بأننا في قيادة الحركة لا نتعامل مع الأحداث من منطلق ردود الأفعال أو منطق الرفض والإدانة، لأن استهداف المدنيين أمر مرفوض ومدان من قبل الجميع مهما كانت الحجج والمبررات وأياً كانت الجهة التي تقوم بهذا الاستهداف، وإنما ننطلق في تقييمنا وتعاملنا مع ما يجري وفق قراءتنا للمعادلات السياسية القائمة وما تقتضيه مصالح شعبنا. ونود التأكيد هنا أن الأزمة التي تعصف بالحركة التحررية الكردية في سوريا هي أزمة بنيوية شاملة، وكل ما يجري عبارة عن سياقات مختلفة تماماً عن تجارب التحرر الوطني، وأن الأمر الذي لا جدال فيه أنه لا يمكننا بهذه الأدوات أن ننجز الاستحقاقات كون كل ما يجري هو عبارة عن نوع من إدارة الخلافات مع الإدارة الذاتية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وداعميه في ظل غياب ملامح أي مشروع واقعي بديل أو إصلاحي يفي بالغرض، ويقوم في الوقت ذاته على فرز المرحلي وفصله عن الاستراتيجي ، لذلك نلاحظ كل ما يجري عبارة عن رد فعل على نتائج صراعات لأطراف محددة مع القوى الإقليمية وفق أجندات ليس لشعبنا فيها لا ناقة ولا جمل . وبالتالي على المهتمين والنخب الواعية بشكل عام سواءً تلك العاملة في الأطر والكيانات القائمة أوتلك المستقلة تنظيمياً واجب البحث عن البديل السياسي – التنظيمي الواقعي والمختلف في بنيته وهيكليته وخطابه وآليات عمله ودرجة امتلاكه لقراره وخصوصيته الكردية السورية وليس الاستمرار على نفس المسارات التي لم تنتج غير الفشل أوإعادة استنساخ الفشل .
وفي الختام هناك جملة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح شديد علينا جميعاً ومنها : ما الذي سنغيّره في أنفسنا وطريقة تفكيرنا ومنهجية عملنا وأساليب نضالنا وبنية تعبيراتنا وأدواتنا كي يكون العام الجديد 2024 أفضل من عام 2023 الذي رحل ؟ وماهي الآليات الجديدة التي سنقوم بإدخالها إلى نظام عملنا كي نتوقع الأحسن؟ أين أخطأنا كي نصححه، وأين أصبنا كي نرسخه ونعززه حتى نتمكن من مغادرة حقول الترهل والضعف صوب الفعل والأفق الإيجابي؟ هل نمتلك الجرأة الكافية كي نسمي الأشياء بمسمياتها، ونوصف الدواء الناجع للأمراض المستشرية في واقعنا كي نؤسس لمرحلة جديدة وبنتائج مختلفة؟.
في 2 من كانون الثاني 2024
المكتب التنفيذي
لـحركة البناء الديمقراطي الكردستاني – سوريا