آراء و ومقالات

الصراع الوجودي للشعب الكردي في سوريا بين الاعتراف والإنكار


محمد عباس

تعد القضية الكردية في سوريا واحدة من أعمق القضايا الوطنية وأكثرها حساسية، لأنها تمس جوهر الوجود الإنساني للشعب الكردي لا مجرد موقعه في المشهد السياسي. فهذه القضية تتصل بالهوية واللغة والاعتراف، وهي بذلك تتجاوز الإطار التقليدي للمطالب السياسية لتصبح سؤالا حول معنى المواطنة والانتماء في دولة متعددة المكونات.
إن الشعب الكردي، الذي عاش قرونا في جغرافيته التاريخية داخل سوريا، يطالب اليوم باعتراف واضح بوجوده القومي وبدوره في بناء المستقبل السوري، بعد عقود من الإقصاء والتهميش.
لقد أنتجت المركزية الصارمة التي حكمت الدولة السورية منذ الاستقلال واقعا مشوها في العلاقة بين المركز والمجتمع. فسياسات الإنكار التي مورست ضد الشعب الكردي لم تكن نتيجة أخطاء إدارية، بل كانت امتدادا لبنية سياسية احتكرت السلطة والثروة والقرار في يد المركز، وأقصت الهويات غير العربية عن المجال العام. هذا النمط من الحكم أضعف الانتماء الوطني، وخلق شعورا دائما بالاغتراب لدى فئات واسعة من السوريين، وفي مقدمتهم الشعب الكردي، الذي وجد نفسه مواطنا ناقص الحقوق في وطنه.
إن التحولات التي تشهدها سوريا اليوم تفرض إعادة النظر في مفهوم الدولة نفسها، وفي طبيعة العلاقة بين المركز والمناطق. فإعادة بناء البلاد لا يمكن أن تتم بإحياء المركزية القديمة التي فشلت في تحقيق العدالة والاستقرار، بل عبر نظام لامركزي (ما اقصده هو المركزية السياسية، التي تعني نقل السلطة السياسية من الحكومة المركزية إلى وحدات محلية أو حكومات إقليمية أو سلطات محلية) يعترف بالتنوع ويفتح المجال أمام مشاركة حقيقية لجميع المكونات. اللامركزية هنا ليست مطلبا كرديا فحسب، بل ضرورة وطنية لبناء توازن دائم بين السلطة والمجتمع، ولضمان توزيع عادل للموارد والفرص والمسؤوليات. بالنسبة للشعب الكردي، تمثل اللامركزية الإطار السياسي القادر على حماية وجوده وضمان حقوقه ضمن الدولة السورية الواحدة. فهي تمنحه القدرة على إدارة شؤونه الثقافية والتعليمية والإدارية بما يحافظ على هويته وخصوصيته، وفي الوقت نفسه تبقيه جزءا فاعلا من البنية الوطنية. بهذا المعنى، فإن اللامركزية ليست تهديدا لوحدة الدولة، بل هي الوسيلة الوحيدة لصيانتها من التفكك، لأنها تعيد بناء الثقة بين المكونات على أساس الشراكة والاحترام المتبادل.
في هذا السياق فإن الاعتراف بالشعب الكردي في الدستور السوري بوصفه مكونا أصيلا ومتساويا مع بقية المكونات هو خطوة لا يمكن تجاوزها في أي مشروع وطني حقيقي. هذا الاعتراف يجب أن يتجسد في ضمان حق التعليم باللغة الكردية، وفي صون الثقافة الكردية من التهميش أو الإلغاء، وفي تمكين أبناء هذه المناطق من إدارة شؤونهم المحلية عبر مؤسسات منتخبة ديمقراطيا. فالدولة العادلة لا تقوم على الإنكار بل على الاعتراف، ولا تبنى بالقهر بل بالمشاركة.
من ناحية أخرى على الشعب الكردي في المقابل أن يدرك أن وحدته الداخلية شرط أساسي لنجاح أي مشروع نحو الاعتراف واللامركزية. فكل انقسام سياسي أو شخصي يضعف الموقف الجماعي، ويمنح القوى المركزية فرصة لإدامة سياسات التهميش القديمة. إن الوعي بأن الصراع هو صراع من أجل الوجود والكرامة، وليس تنافسا على النفوذ، هو ما يحافظ على تماسك الموقف الكردي ويمنحه شرعية وطنية وأخلاقية.
ومع هذا كله لا يمكن إغفال البعد الإقليمي الذي يشكل ضغطا مستمرا على تطلعات الشعب الكردي. فالمواقف العدائية، وخاصة من الجانب التركي، تمثل تهديدا مباشرا لا على الكرد وحدهم بل على الاستقرار الإقليمي بأسره. لذلك فإن ترسيخ الحقوق الكردية في الدستور السوري وإدماجها ضمن منظومة وطنية متماسكة هو أيضا شكل من أشكال الحماية من التدخلات الخارجية التي تستغل غياب العدالة الداخلية لتبرير نفوذها.
إن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى إلا على قاعدة المساواة بين جميع أبنائها، دون تمييز في القومية أو اللغة أو الانتماء. واللامركزية ليست تفصيلا إداريا في هذا البناء، بل هي الأساس الذي يعيد صياغة مفهوم الوحدة الوطنية على أساس التعدد والتكامل. فحين يعترف السوريون بعضهم ببعض، ويتقاسمون السلطة والمسؤولية على نحو متوازن، يتحول التنوع إلى مصدر قوة لا إلى سبب انقسام.
إن نضال الشعب الكردي من أجل الاعتراف ليس دعوة للانفصال أو التميز، بل مشروع وطني لإعادة تعريف الدولة السورية على أسس العدالة والشراكة والمواطنة الحقيقية. فوجود هذا الشعب وإسهامه في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية يجب أن يُنظر إليه بوصفه ثروة وطنية لا عبئا سياسيا. سوريا الجديدة التي يتطلع إليها الجميع لن تكون ممكنة إلا حين تُبنى على الاعتراف المتبادل، وعلى نظام لامركزي يوزع السلطة بعدل ويصون كرامة كل من يعيش على أرضها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى