آراء و ومقالات

المشهد السياسي الجديد في سوريا بين وهم الحوار الوطني وحقيقة المخطط الدولي

محمد عباس

بعد سقوط نظام بشار الأسد، برزت السلطة الجديدة في دمشق بقيادة أحمد شرع كجهة سياسية وحيدة، وما ان استلمت هذه السلطة القيادة في دمشق، بدأت بالترويج والدعوة إلى “الحوار الوطني” بزعم إعادة بناء سوريا على أسس جديدة وبمشاركة كل المكونات. كل هذه الدعوات، التي تبدو في ظاهرها محاولة لتحقيق مصالحة وطنية، لكنها ليست إلا امتدادًا لمخطط دولي تمت هندسته بعناية، ولم يكن إسقاط النظام السابق إلا جزءًا منه. فالتحركات التي نشهدها اليوم لم تأتِ نتيجة تطورات طبيعية في الصراع السوري، بل هي تنفيذ لخطة طويلة الأمد جرى التحضير لها منذ سنوات، وتم تأجيل تطبيقها عمدًا حتى نضجت الظروف المواتية لفرضها.
إن تأخر سقوط النظام السوري لأكثر من عقد كامل لم يكن عشوائيًا، بل كان خطوة محسوبة تندرج ضمن استراتيجية ترمي إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بأكملها. لقد مُنح النظام السابق الوقت الكافي لإضعاف الدولة السورية من الداخل، واستنزاف قواها، وتدمير بنيتها التحتية، بحيث تصبح الأرض جاهزة لاستقبال الترتيبات الجديدة. فالدمار الذي حل بسوريا لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل كان أداة لتهيئة البلاد لمرحلة ما بعد النظام، حيث تكون السلطة الجديدة، مهما كانت هويتها، غير قادرة على فرض سيطرة مركزية قوية، مما يُمهد الطريق لفرض نموذج سياسي بديل لا يقوم على الدولة المركزية الموحدة، بل على فدرلة السلطة إلى كيانات متعددة تتناسب مع المصالح الإقليمية والدولية.
السلطة الجديدة في دمشق، رغم محاولتها تقديم نفسها كحكومة شرعية، فهي في الحقيقة ليست سوى أداة لتنفيذ هذه الترتيبات. فهي لم تصل إلى الحكم نتيجة قوتها الشعبية أو العسكرية، بل نتيجة توافقات دولية حُددت فيها أدوار الأطراف الفاعلة مسبقًا، وهي قد وافقت على كل ذلك، لهذا كان لها أن تكون القائدة لإدارة العمليات الوهمية للسيطرة على دمشق. وبالتالي إن كل ما تدعوه بالمؤتمرات والحوارات والتي هي تحت عنوان “الحوار الوطني”، ليست أكثر من عروض سياسية تهدف إلى امتصاص النقمة الشعبية، وإعطاء الانطباع بأن هناك عملية سياسية جارية، بينما الحقيقة أنه قد رُسِم المستقبل الحقيقي لسوريا وكل المنطقة خلف الكواليس، وفق مصالح القوى الكبرى.
وأولى مؤشرات هذا المشروع المستقبلي يدل على أن سوريا تتجه نحو الفدرلة، حيث لم يعد بالإمكان إعادة توحيد البلاد تحت سلطة مركزية واحدة. فهناك مناطق باتت تتمتع بحكم ذاتي كردي في الشمال والشرق السوري (كردستان سوريا)، التي تحظى بدعم غربي مباشر، وهناك الجنوب السوري، حيث تتصاعد النزعات والمطالبات بحكم ذاتي في السويداء، مدفوعة برغبة في التخلص من أي سلطة مركزية، سواء أكانت سابقة أم حالية. لهذا وجدت هذه الدول أن أفضل نظام لكل هذه الخصوصيات هو الفدرلة والتي ربما لا تتوقف عند سوريا وحدها، بل يُمكن أن تمتد إلى تركيا أيضًا، حيث تُواجه أنقرة تحديات داخلية وخارجية قد تجعلها عرضة لهذا السيناريو وسيكون الأمر بالموافقة التركية وحكومة العدالة والتنمية بشكل خاص.
أما إسرائيل التي تلعب دورًا محوريًا في هذا المخطط، ليس فقط من خلال التأثير على الترتيبات السياسية، بل عبر ضمان أن أي نظام جديد في المنطقة سيكون متوافقًا مع استراتيجيتها الأمنية. التطبيع مع إسرائيل لم يعد مجرد احتمال، بل أصبح شرطًا ضمنيًا لاستمرار أي نظام سياسي جديد في المنطقة. فبقدر ما يتم تقديم “الحوار الوطني” كمبادرة داخلية، فإنه في الواقع جزء من التفاهمات الدولية التي تتضمن إدماج إسرائيل في الخارطة السياسية للشرق الأوسط، بحيث تصبح جزءًا من المعادلة الإقليمية بشكل أكثر وضوحًا وعلنية، وخاصةً بعد ان تخلصت من النفوذ الإيراني في كل من سوريا ولبنان وبعد حرب غزة وانهاء حركة حماس.
في هذا السياق، فإن ما نشهده اليوم ليس انتقالًا سياسيًا حقيقيًا، بل تنفيذ دقيق لمخطط تم إعداده في المطبخ الإسرائيلي، بإدارة “الشيف الأمريكي”، بينما تلعب القوى الأوروبية والتركية وبعض القوى العربية أدوارًا مساندة في التنفيذ. أما المؤتمرات واللقاءات التي تُعقد تحت شعار “الحوار الوطني”، فهي ليست سوى أدوات سياسية تهدف إلى تهدئة الشارع السوري وإبقائه منشغلًا بنقاشات شكلية، بينما السيناريو الفعلي قد أُعد فعلاً في الكواليس. كما في أي عمل درامي، تأتي هذه اللقاءات كالإعلانات الترويجية التي تسبق العرض الأساسي، حيث يتم تقديم وعود زائفة، بينما يجري إعداد الطبخة الحقيقية بعيدًا عن الأنظار، بانتظار اللحظة المناسبة لفرضها كأمر واقع لا رجعة فيه. وما إن يحين الوقت المناسب، سيُرفع الغطاء عن هذه الطبخة، ليجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد، لم يكن لهم في صناعته سوى دور المتفرج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى