رسالة أوجلان

هل هي دعوة للسلام بدون ضمانات أم استسلام تحت ضغط تركي؟
المحامي محمد عباس
تشكل رسالة عبد الله أوجلان الداعية إلى حل حزب العمال الكردستاني والتخلي عن السلاح نقطة تحول مثيرة للجدل، ليس فقط من حيث مضمونها، ولكن أيضًا من حيث توقيتها والسياق السياسي والقانوني المحيط بها. ورغم أن الدعوة تبدو للوهلة الأولى خطوة نحو إنهاء الصراع الممتد لعقود بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، إلا أنها تطرح تساؤلات جدية حول مدى واقعيتها، ومدى إمكانية تنفيذها على أرض الواقع، والأهم من ذلك، ما إذا كانت هذه الخطوة تتمتع بضمانات قانونية وسياسية حقيقية تضمن حقوق الشعب الكردي في تركيا.
جاءت رسالة أوجلان في وقت تشهد فيها تركيا تصعيدًا أمنيًا ضد السياسيين والنشطاء الكرد، سواء من خلال العمليات الأمنية و العسكرية داخل البلاد أو عبر التوغلات المتكررة في كردستان العراق وسوريا. كما أنها تتزامن مع وضع داخلي تركي معقد، حيث تزداد الضغوط الدولية على أنقرة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ويبدو أن الحكومة تسعى إلى تقديم صورة أكثر اعتدالًا للعالم عبر إظهار انفتاحها على حل الصراع الكردي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الدعوة تأتي في إطار رؤية حقيقية للسلام، أم أنها مجرد خطوة تكتيكية تهدف إلى إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني ونشاطه الواسع في كل المنطقة ؟
التاريخ السياسي للصراع الكردي في تركيا يظهر أن الدولة التركية لم تقدم في أي وقت سابق حلولًا سياسية مستدامة، بل تعاملت مع القضية الكردية من منظور أمني ضيق، حيث صنفت حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، وضيقت على الأحزاب السياسية الكردية الأخرى، وقمعت أي محاولات للحوار السياسي الجاد. وكانت هناك محاولات قليلة للحل السياسي، مثل عملية السلام التي جرت بين 2013 و2015، لكنها انهارت بعد فترة وجيزة، مما أدى إلى تصعيد جديد للعنف.
إن أي عملية حل لجماعة مسلحة تستلزم وجود إطار قانوني واضح يضمن إعادة دمج المقاتلين في الحياة المدنية وعدم ملاحقتهم قضائيًا. التجارب الدولية، مثل اتفاق الجمعة العظيمة في إيرلندا الشمالية، أظهرت أن إنهاء التمردات المسلحة لا يحدث إلا عندما يتم تقديم ضمانات قانونية تحمي المسلحين السابقين وتضمن لهم دورًا في الحياة السياسية. في المقابل، لم تُظهر الدولة التركية أي نية حقيقية في تقديم مثل هذه الضمانات ويأتي في مقدمتها إصدار عفو جزئي عن المقاتلين، بل إن القوانين الأمنية التركية تتيح ملاحقة الأفراد المنتمين لحزب العمال الكردستاني حتى لو تخلوا عن السلاح.
تجربة 2013-2015 توفر مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تم تقديم وعود بعدم ملاحقة المقاتلين الذين انسحبوا إلى كردستان العراق، لكن هذه الوعود لم تُنفَّذ فعليًا، واستمرت العمليات العسكرية ضدهم، مما دفعهم إلى العودة إلى العمل المسلح. وهذا يثير تساؤلًا رئيسيًا: ما الذي يضمن أن لا يتم استخدام هذه الدعوة كخدعة سياسية لإضعاف الحزب عسكريًا ثم القضاء عليه أمنيًا؟
رغم مكانة أوجلان الرمزية، إلا أن قيادات الحزب الفعلية انتقلت منذ سنوات إلى جبال قنديل، حيث يتخذ القادة الميدانيون قراراتهم بشكل مستقل إلى حد كبير. وهذا يعني أن صدور دعوة من أوجلان لا يضمن بالضرورة تنفيذها، خصوصًا أن هذه القيادات لم تُظهر سابقًا أي استعداد للتخلي عن السلاح دون وجود اتفاق شامل يضمن مطالب هذا الحزب.
كما أن حزب العمال الكردستاني ليس الكيان الكردي المسلح الوحيد في المنطقة، بل هناك فصائل أخرى مثل حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته الممثلة بوحدات حماية الشعب في سوريا، وحزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران، وهذه الكيانات لها استراتيجياتها الخاصة التي قد لا تتماشى مع دعوة أوجلان. وبالتالي، فإن حل الحزب لن يؤدي بالضرورة إلى إنهاء الكفاح المسلح لهذا الحزب، بل قد يدفع إلى تفكك التنظيم إلى مجموعات أصغر وأكثر تسليحاً وتنظيماً، مما يؤدي إلى ان رسالة أوجلان قد جاءت بمفعول عكسي بالنسبة لتركيا، وبالتالي يزيد من صعوبة المشهد السياسي والأمني في المنطقة ككل.
بعد سنوات من العزلة شبه التامة، سمحت الحكومة التركية لأوجلان بإرسال هذه الرسالة، مما يثير تساؤلات حول مدى استقلاليته في اتخاذ هذا القرار. هل جاء البيان نتيجة قناعة شخصية، أم أنه صدر تحت ضغط سياسي من الدولة التركية؟ ليس من المستبعد أن تكون هذه الدعوة جزءًا من استراتيجية سياسية تهدف إلى إضعاف حزب العمال الكردستاني وإحداث شرخ داخلي بين قياداته، خاصة أن مثل هذه الرسائل سبق أن تم تسريبها في أوقات حساسة سياسيًا لخدمة أجندات الحكومة التركية. حتى لو افترضنا أن هناك نية حقيقية لتنفيذ هذه الدعوة، فإن نجاحها يعتمد على وجود إطار سياسي وقانوني يضمن حقوق الشعب في تركيا منها الاعتراف بهويته القومية وتثبيت ذلك دستورياً. فالتخلي عن السلاح دون أي ضمانات سياسية واضحة سيكون بمثابة استسلام غير مشروط، وليس خطوة نحو السلام الحقيقي. الدول التي نجحت في إنهاء الحروب الأهلية لم تحقق ذلك عبر نزع السلاح فقط، بل من خلال تسويات سياسية تضمن الحقوق القومية، كما حدث في جنوب إفريقيا وإيرلندا الشمالية.
في تركيا، لا توجد حتى الآن أي مؤشرات على أن الدولة مستعدة لمنح الشعب الكردي حقوقًا سياسية متساوية، بل على العكس، تشددت الحكومة في موقفها ضد الأحزاب الكردية، وتم حظر العديد منها واعتقال قياداتها بتهم تتعلق بالإرهاب، مما يعكس غياب أي نية حقيقية للحل السياسي.
في النهاية، تبدو رسالة أوجلان أقرب إلى مبادرة رمزية تفتقر إلى الأسس السياسية والقانونية التي تضمن تنفيذها. فغياب أي التزام من الدولة التركية بتقديم إصلاحات سياسية، وافتقارها إلى سجل موثوق في احترام الاتفاقات السابقة، يجعل من الصعب تصور أن هذه الدعوة ستؤدي إلى سلام دائم.
أما على المستوى العملي، فإن القيادة الفعلية لحزب العمال الكردستاني في قنديل ليست ملزمة بتنفيذ دعوة أوجلان، خاصة في ظل استمرار الضغوط العسكرية التركية على المناطق الكردية. وبالتالي، من غير المرجح أن تؤدي هذه المبادرة إلى إنهاء الصراع، بل قد تزيده تعقيدًا إذا ما أدت إلى انقسامات داخل الحزب أو دفعت الجماعات المسلحة إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا.
الحل الحقيقي لا يكمن في مجرد حل حزب العمال الكردستاني، بل في الاعتراف بحقوق الشعب الكردي وضمان مشاركتهم العادلة في الحياة السياسية. بدون ذلك، ستظل أي مبادرة من طرف واحد مجرد خطوة شكلية لا تغير من واقع الصراع، بل قد تعمّق أبعاده وتجعل التوصل إلى تسوية مستقبلية أكثر صعوبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس