أبحاث و دراسات

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

نشر في 18 حزيران/يونيو ,2024
مقدمة
بداية، قبل كل شيء، علينا أن نحدّد دلالة بعض المفاهيم والعبارات بصورة واضحة غير قابلة للتأويل:

اللامركزية السياسية ليست الفيدرالية، فاللامركزية السياسية تحدث في دول أحادية أو مركبة (فيدرالية).
اللامركزية الإدارية الموسّعة مصطلح طرحته النخب اللبنانية في سوق اللامركزية، لخشيتها من التأويلات. ولم نجد بلدًا آخر سوى بوركينا فاسو يستعمل مثل هذا المصطلح.
الفيدرالية ليست تقسيمًا، ولا تحدث في البلدان الكبيرة دون الصغيرة، وليست دائمًا اتحادًا لدويلات، وهناك دول تحوّلت من أحادية إلى فيدرالية، وأخرى تحوّلت من فيدرالية إلى أحادية. وليست الفيدرالية كفرًا، وليست فضيلة. إنما هي تقنية إدارية وسياسية، قد تناسب بلدًا في ظرف ما، ولا تناسب غيره في ظرف مختلف.
الفيدرالية لا تسمح للوحدات الإدارية أن يكون لها جيش خاص، أو حرس حدود خاص، أو عملة مختلفة، أو تمثيل سياسي خارجي. فهذا التفاف مشبوه على الفيدرالية.
اللامركزية ليست حكم قيمة. وللامركزية عيوبها ومزاياها، قد تنجح في سياق، وقد يكون لها أثر مدمر في سياق آخر!
ومن المستغرب استمرار اللبس في المصطلح، والمدلول، والأثر السياسي للامركزية، لدى الفواعل السياسية والمدنية السورية. فمن ناحية المصطلح، تجد من يطابق بين اللامركزية السياسية والفيدرالية، وبين الفيدرالية والكونفدرالية، ومن يعتبر اللامركزية السياسية نقيض اللامركزية الإدارية، فضلًا عن تغييب كبير لمصطلح اللامركزية المالية!

أما من ناحية المدلول، فهناك أطراف تُطابق بين اللامركزية والديمقراطية، وترى أن أي نظام لامركزي هو نظام ديمقراطي، والعكس صحيح، فكلّ نظام استبدادي هو مركزي بطبيعة الحال. وبالمقابل، هناك أطراف أخرى تعدّ اللامركزية تهديدًا لسيادة الدولة ووحدة أراضيها، وأن اللامركزية إضعاف للمركز وسلطته، لصالح طرف بعينه أو أطراف بعينها!

ويضاف إلى ذلك أن هناك من يرى أن الحديث عن اللامركزية ما زال مبكرًا، وأن لا معنى للحديث عن اللامركزية ولا سواها، قبل تحرير البلاد من جميع الاحتلالات، وتحقيق الانتقال السياسي وفق القرار 2254.

ولهذا اللبس بالطبع، أسباب موضوعية وأخرى تاريخية، وثالثة ذاتية، وهذا اللبس ليس محصورًا بالسياق السوري، فهو حاصل في العالم العربي عمومًا، بل في كثير من البلدان، وخصوصًا تلك التي عانت حقبات استعمارية تعرّضت عبرها للتجزئة.

ما نسعى إليه في هذا المقال هو محاولة إزالة اللبس حول كل ما ذُكر. فلا اللامركزية السياسية هي الفيدرالية، ولا اللامركزية الإدارية نقيضٌ للسياسية، ولا اللامركزية ضمان لحقوق المكونات والديمقراطية، وليست اللامركزية والانتقال السياسي والتحرير مسائل منفصلة تحدث بالتتالي أو التوازي، إنما هي مسائل متشابكة مترابطة.

سنبدأ كلامنا بتوفير أدقّ تعريف للمصطلحات المرتبطة باللامركزية، مستندين إلى الأدبيات العالمية الأكثر موثوقية، لننتقل بعد ذلك إلى شرح أسباب اللبس، سوريًا وعربيًا، ومن ثم نخلص إلى جملة توصيات مرتبطة باللامركزية والحكم المحلي.

في اللامركزية وأبعادها الثلاثة: السياسية والإدارية والمالية
على الرغم من تباين التعريفات بين المؤسسات الدولية، فإنها تتفق على أن اللامركزية هي نقل الصلاحيات والموارد من المركز إلى الأطراف، لتحسين عملية اتخاذ القرار. ويأتي ذلك تطبيقًا لمبدأ التفريع أو Subsidiarity، وهو مصطلح معرّب، ويعني تقريب عملية اتخاذ القرار إلى أكثر الأماكن تأثرًا بهذا القرار[1]. فبحسب البنك الدولي، تقتضي اللامركزية “نقل السلطات السياسية والمالية والإدارية إلى وحدات حكومية فرعية. لن تكون الحكومة لا مركزية إلا إذا احتوت الدولة على مؤسسات حكم دون وطنية منتخبة مستقلة، قادرة على اتخاذ قرارات ملزمة، في بعض مجالات السياسة على الأقل”.

أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فيعرف اللامركزية بأنها “إعادة هيكلة أو إعادة تنظيم السلطة، بحيث يكون هناك نظام مسؤولية مشتركة بين مؤسسات الحكم على المستويات المركزية والإقليمية والمحلية، وفقًا لمبدأ التفريع، وبالتالي رفع مستوى جودة وفعالية نظام الحوكمة بشكل عام، ورفع منسوب سلطات وقدرات المستويات المحلية”. أما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، فتعرّف اللامركزية بأنها “تدابير تتم عبرها عملية نقل مجموعة من السلطات والمسؤوليات والموارد، من الحكومة المركزية، إلى الحكومات دون الوطنية، والتي تُعرف بأنها كيانات قانونية منتخبة بالاقتراع العام وتتمتع بدرجة معينة من الاستقلالية”. وتعرّف الوكالة الأميركية للتعاون الدولي USAID اللامركزية بأنها “نقل السلطة والموارد من الحكومات الوطنية إلى الحكومات دون الوطنية، أو إلى الوحدات الإدارية دون الوطنية للحكومات الوطنية”. وغالبًا ما يُنظر إلى اللامركزية على أنها عملية من أعلى إلى أسفل، تقودها دولة أحادية أو فيدرالية، تمنح فيها الحكومة المركزية الوظائف والسلطات والموارد للمستويات دون الوطنية، إلا أن دوافع اللامركزية يمكن أن تنشأ أيضًا من هذه المستويات الأدنى[2].

تترك اللامركزية هامشًا واسعًا، للحكومات المحلية (مجالس محافظات، مجالس محلية، بلديات إلخ)، لإدارة شؤونها الخدميةالخاصة، على قاعدة “أهل مكة أدرى بشعابها”، أو التفريع. ويحدث هذا عبر تحقيق أبعاد اللامركزية الثلاثة: اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية واللامركزية المالية. هذه أبعاد اللامركزية، وليست أنماطًا مختلفة. وفيما يأتي توضيح لهذه الأبعاد.

اللامركزية السياسية:
يُقصد باللامركزية السياسية قدرة المجتمعات المحلية على انتخاب ممثليها في مجالس المحافظات أو المجالس المحلية، وتمتّع هذه المجالس بقدرٍ عالٍ من الاستقلالية، يُمكّنها من التعبير عن مصالح المجتمعات المحلية. وتعرّف الوكالة الأميركية للتعاون الدولي اللامركزية السياسية بأنها “نقل السلطة السياسية إلى الحكومات دون الوطنية. ويتم هذا النقل من خلال التعديلات الدستورية والإصلاحات الانتخابية التي تخلق مساحات جديدة (أو تعزز تلك القائمة منها)، لتمثيل المجتمعات المحلية”[3]. أما الـ UNDP، فتعرفها بأنها “قدرة المؤسسات السياسية المحلية على عكس مصالح المواطنين في قراراتها السياسية”[4]. اللبس الذي يرافق هذا المصطلح، برأينا، هو ربط السياسة فقط بالسياسة الخارجية، لتصبح كلمة “سياسة” وكأنها تعطي المحليات فرصة التمثيل الخارجي، في حين إن السياسة هنا تعني تنافس الأحزاب والأفراد على التمثيل على المستوى المحلي، واللامركزية السياسية تعني قدرة المجتمعات المحلية على الانتخاب الحرّ والديمقراطي لممثليها على المستوى المحلي، ولا شيء سوى ذلك، ولا تعني الفيدرالية على الإطلاق. ولنأخذ مثالًا على ذلك من موقع مؤشرات اللامركزية في المفوضية الأوروبية؛ فألمانيا الاتحادية دولة فيدرالية، وهي في المرتبة الأولى ضمن دول الاتحاد الأوروبي، من حيث تطبيق اللامركزية، حيث يصل مستوى اللامركزية السياسية إلى مرتبة 2.5، (الشكل 1)، لكنها تتشارك المرتبة الأولى مع دولة أحادية (غير فيدرالية) هي لاتفيا، عند مستوى 2.5، في حين تتساوى معها، من حيث اللامركزية السياسية، عند مستوى 2.5 (الشكل 2).

الشكل 1: اللامركزية السياسية في ألمانيا: دولة فيدرالية

الشكل 2: اللامركزية السياسية في دولة لاتفيا (الأحادية-غير الفيدرالية)

اللامركزية الإدارية:
تعني اللامركزية الإدارية قدرة السلطات المحلية (المعيّنة أو المنتخبة) على تعيين الإدارات المحلية كلّها أو بعضها (صحة، تعليم، سياحة، خدمات، إلخ)، وفق ما يضعه القانون أو الدستور. إضافة إلى ذلك، تتضمن اللامركزية الإدارية وضع الخطط والموازنات المحلية للخدمات التي يفوضها المشرع للمحليات. فإذا كانت مراكز الرعاية الصحية من اختصاص الحكومات المحلية (مجلس محافظة مثلًا)، فإن ذلك يعني أن من يضع خطط توزع المراكز، ويعيّن إداراتها ويضع موازناتها، هي مؤسسات الإدارة المحلية (المصطلح الأقل إخافة من مؤسسات الحكم المحلي)، علمًا أن من يضع معاييرها وأسس إداراتها هي الحكومة المركزية في غالب الأحيان.

تعرف الـ USAID اللامركزية الإدارية بأنها “نقل المسؤولية عن التخطيط والإدارة لوظيفة عامة واحدة أو أكثر، من الحكومة الوطنية ووكالاتها المركزية، إلى الحكومات دون الوطنية و / أو الوحدات الإدارية دون الوطنية. وتعني اللامركزية الإدارية توفر البنية المؤسسية (الهياكل التنظيمية والأنظمة والإجراءات) التي تدعم تنفيذ وإدارة تلك المسؤوليات تحت السيطرة الرسمية للسلطات المحلية”[5]. أما الـ UNDP والبنك الدولي، فتعرفها بأنها “نقل المسؤولية عن التخطيط والإدارة وجمع الموارد وتخصيصها من الحكومة المركزية ووكالاتها إلى الأطراف، أو وحدات الوكالات الحكومية، أو الوحدات التابعة، أو مستويات الحكومة، أو السلطات، أو الشركات العامة شبه المستقلة، أو على مستوى المنطقة أو السلطات الوظيفية، أو المنظمات غير الحكومية الخاصة أو التطوعية”[6][7].

إذًا، لا علاقة للامركزية الإدارية بانتخاب السلطات المحلية، وإنما علاقتها بصلاحيات هذه السلطات التخطيطية. وبذلك يمكن أن تكون السلطة المحلية معينة، ومع ذلك تُمنح صلاحيات مرتبطة بالتخطيط والتعيين. بالمقابل، قد تكون السلطات المحلية منتخبة، كحال مجالس المحافظات والمدن والبلدات في سورية، لكنها مسحوبة الصلاحيات، وليس لديها أي قدرة على تعيين الإدارات المحلية، إذ تقوم الوزارات بتعيين الإدارات الخدمية كافة، إضافة إلى منشآت حيوية أخرى مثل المشافي.

اللامركزية المالية:
تتمثل اللامركزية المالية، أو ما يُعرف باللامركزية الاقتصادية، بقُدرة السلطات المحلية على توفير موارد مالية لها، عبر فرض ضرائب ورسوم وإنشاء مشاريع إنتاجية لها. مرة أخرى، قد تكون هذه السلطات منتخبة أو معيّنة، فهذا لا يمسّ مستوى اللامركزية المالية، كما لا يمسّ مستوى اللامركزية الإدارية، وإنما يمسّ قدرة هذه السلطات على تحصيل الموارد. بالطبع، لا تسمح أي دولة للمؤسسات المحلية بتحصيل كامل مواردها محليًا، كي لا تصبح قادرة على الانفصال.

مرة أخرى، يتبيّن بالمقارنة أن لاتفيا، وهي تتمتع كما ذكرنا بلامركزية سياسية عالية، تعاني ضعفًا في لامركزيتها المالية، لتكون في المرتبة التاسعة، في حين إن إسبانيا تصبح في المرتبة الثانية ماليًا، علمًا أنها في المرتبة 19 في اللامركزية السياسية، وعلى الرغم من أنها مصنفة دولة فيدرالية!

ما الفيدرالية إذًا؟
لشرح الفيدرالية، نجري مقارنة بين الدولة البسيطة (الأحادية) والدولة المركبة (الفيدرالية). يكمن الفارق بين الدولة الأحادية والدولة الفيدرالية في طبيعة توزيع السلطة السياسية والإدارية، بين الحكومة المركزية والمناطق المكونة للدولة. فالدولة الأحادية (Unitary State) هي الدولة التي تتركز فيها السلطة السياسية في الحكومة المركزية، كاليابان ومصر وسورية وتركيا. وتتمتع الحكومة المركزية في الدول الأحادية بالسلطة الكاملة، ويمكنها إلغاء أو تعديل أي قرارات محلية. كما تُنشأ التقسيمات الإدارية (مثل الأقاليم أو المحافظات)، وتُدار مباشرة من قبل الحكومة المركزية، دون أن يكون للمحليات أي سلطة بتحديد الحدود الإدارية لمثل هذا المستوى الإداري.

أما الدولة الفيدرالية (Federal State)، فهي الدولة التي تتوزع فيها السلطة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية (مثل الولايات أو الأقاليم)، وفقًا لدستور مكتوب يُحدد اختصاصات كل مستوى. تتمتع الوحدات المحلية في مثل هذه الدول بقدر من الاستقلالية، وتملك حكوماتها المحلية صلاحيات محددة. ويمكن للأقاليم أو الوحدات الفرعية أن يكون لها أنظمتها الأساسية أو دساتيرها التي تستمد منها قوانينها المحلية، شريطة ألا تتعارض هذه الدساتير مع الدستور الأساسي للبلاد، الذي يصعب تعديله إلا بموافقة الجانبين.

لدى الدول الأحادية دستور واحد، يعطي الحكومة المركزية السلطة المطلقة، وهي صاحبة القدرة على إصدار التشريعات. أما القضاء، فهو نظام قضائي مركزي في الدول الأحادية، لأن هناك مصدرًا واحدًا للتشريعات، في حين أنه في الفيدرالية هناك نظام قضائي مزدوج، بمحاكم مركزية وأخرى محلية، وكل يطبّق في مجاله الجغرافي المحدد مع أولوية بالطبع للتشريعات المركزية.

ولإزالة اللبس، بين اللامركزية السياسية والدول الفيدرالية، نأخذ مثالًا دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ليس لديها سلطات محلية منتخبة، وعلى الرغم من ذلك فهي نظام فيدرالي قائم على مشاركة السلطة بين الإمارات السبعة والحكومة المركزية، حيث تتألف السلطة التشريعية في البلاد من مجلسين: واحد يسمى “المجلس الأعلى للاتحاد”، وهو مشكل من حكّام الإمارات السبعة، وآخر يسمى “المجلس الوطني للاتحاد”، وتتمثل فيه كل إمارة بحسب عدد سكانها، بحيث يكون لدبي وأبو ظبي 8 مقاعد، والشارقة ورأس الخيمة 6 مقاعد، وباقي الإمارات 4 مقاعد. ولا يوجد في نص الدستور ما يطرح أي عملية انتخابية لأي من المجلسين، مما يجعل العملية في المجلسين وراثية أو انتقائية من قبل حكام الإمارات السبعة. إذًا نحن في حالة من الفيدرالية دون وجود لامركزية سياسية، وكنا قد رأينا أن لاتفيا أحادية، وتتمتع بلامركزية سياسية واسعة.

ما يميز الفيدرالية عن الدولة الأحادية وجود برلمان من غرفتين: غرفة تمثل الشعب وتسمى الغرفة الدنيا، وأخرى تسمى الغرفة العليا، وتمثل المناطق، أو الأقاليم، أو الولايات إلخ. عمليًا، في جميع الفيدراليات، باستثناءات قليلة جدًا (مثل جزر القمر وفنزويلا والعراق)، يوجد في الدستور غرفتان، (لكن لم تُحدَث الغرفة العليا بعد إقرار الدستور)، ولكن ليس جميع الدول التي لديها غرفتان هي فيدرالية بالضرورة. فعلى سبيل المثال، الأردن والمغرب والجزائر ومصر هي دول أحادية، رغم وجود غرفتين، كون هذه الأجسام التشريعية لا تمثل المناطق أولًا، ومن ثم لا يوجد تشارك سلطة بين الأقاليم والمركز.

أسباب اللبس الحاصل في المصطلحات
للبس الحاصل أسباب تاريخية، وأخرى سياسية مرتبطة بالواقع الراهن. تاريخيًا، قامت السلطنة العثمانية (تحديدًا جمعية تركيا الفتاة) بشيطنة جميع المطالبين باللامركزية، متهمة إياهم بالنزعة الانفصالية. وأدى ذلك عمليًا إلى إنشاء أحزاب ذات توجه لامركزي، لكنها أرادت منذ تأسيسها تبرئة نفسها من تهمة الانفصال، فشددت في اسمها على “العثمانية”، وعلى الغرض الإداري من اللامركزية. فتأسس على سبيل المثال حزب اللامركزية الإدارية العثمانية، الذي ضم عرب بلاد الشام، وعلى رأسهم رشيد رضا، وعبد الحميد الزهراوي، وشكري غانم، وغيرهم. ويتضح من هذا الاسم أن المطلوب كان التأكيد أن المطلوب هو الإدارة المحلية، وأن لا أحد يريد الانسلاخ عن السلطنة العثمانية. وثمة مثال آخر هو بيان المؤتمر الأول للأحرار العثمانيين في باريس، الذي طالب باحترام خصوصيات الاثنيات المختلفة، وأكد أن المطلوب هو تأسيس “ائتلاف يضمن للجميع من غير تمييز تمتّعهم التام بحقوقهم التي أقرتها إعلانات السلاطين وعززتها المعاهدات الدولية، وأن توفر لهم الوسائل التي ترضي تمامًا آمالهم الشرعية في الإسهام بالإدارة المحلية، وتضعهم على قدم المساواة من ناحية الحقوق والواجبات المطلوبة من كافة المواطنين، وأن نستثير فيهم شعور الإخلاص والولاء للعرش ولآل عثمان، اللذين وحدهما يستطيعان المحافظة على الوحدة”[8].

تندرج الأسباب السياسية تحت بندين أساسيين: الأول هو شيطنة اللامركزية التي حدثت في عهد عبد الناصر ومن ثم حزب البعث منذ العام 1963. والثاني هو آليات تطبيق اللامركزية في دول الجوار، وعلى رأسها العراق، التي أثرت إلى حد كبير في آراء الجمهور والنخب على السواء تجاه اللامركزية، على قاعدة أن العراق يمثل المحاولة الأساسية للامركزية في المنطقة. ولطالما ترافقت مطالب اللامركزية والفدرلة مع جهات اتّهمت بالانفصالية.

بالطبع، لا ينطبق هذا الأمر على سورية فقط. فهناك دول عدة، مثل إسبانيا وجنوب إفريقيا، شهدت حروبًا أهلية لا تقل دموية عمّا شهدته سورية من جهة، وشهدت حكمًا مركزيًا طويل الأمد من جهة أخرى، ومع ذلك، تحاشت الولوج في مصطلحات مثل الفيدرالية واللامركزية، لتستعيض عنها بمعنى وجوهر هذه التقنيات، من دون تسميتها.

لدينا مثال آخر هو المغرب، حيث تطورت نظم الحكم المحلي إلى حد بعيد، بعد دستور 2011، من دون التطرق إلى مصطلح اللامركزية على الإطلاق، واستعيض عنه بمبدأي التفريع والتدبير الحر. وكذلك تونس التي اتبعت منهجًا مشابهًا، رغم ذكرها لمصطلح اللامركزية، إلا أنها تبتعد عن أي توصيف آخر لها، فهناك لامركزية فقط، من دون توصيفها بإدارية أو سياسية أو مالية!

الخلاصة والتوصيات:
عملت النخب السورية على أدلجة كثير من المصطلحات السياسية، ذات الطبيعة التقنية، مثل اللامركزية، والفيدرالية. وأدى هذا إلى التعامل مع مثل هذه المصطلحات بشيءٍ من العاطفة، وبعيدًا عن التفنيد العلمي لها، تمهيدًا لاستخدامها أو عدم استخدامها في الحوارات والوثائق، سواء لدى طرف المعارضة أو السلطة.

وأدى كل هذا إلى شيطنة مصطلحات، مثل اللامركزية السياسية والفيدرالية من جهة، وإلى الخلط بين المسميات من جهة أخرى، إلى حد المطابقة بين الكونفيدرالية (لا الفيدرالية وحسب) واللامركزية السياسية.

حاولنا في هذه المقالة البحثية تحديد بعض المصطلحات، ونزعها من النقاش السياسي المؤدلج، إلى نقاش علمي تقني، ليؤخذ منها ما يفيد، ويُترك ما لا يفيد في سياق مثل سياق سورية. وعليه فإننا نوصي بما يلي:

إعادة النظر بالوثائق التي تتناول مصطلحات اللامركزية.
الاعتماد على مضامين المصطلحات، بدلًا من الدخول في جدل حول معنى كل مصطلح؛ فتحديد سلطات المركز بمقابل سلطات الحكم المحلي بشكل واضح، دون لبس، أجدى من استخدام مصطلحات تفتح أعمال التأويل والتأوّل.
استخدام مصطلحات جديدة لا حمولة سياسية كبيرة لها، مثل التدبير الحرّ والتفريق، وإعطاؤها معنى تقنيًا محددًا ومتفقًا عليه، قد يكون أسهل من إعادة شرح المصطلحات القائمة وتأويلها.
[1] Sikow-Magny, C. (2007), “Subsidiarity and transport policy co-ordination in the european union”, in Transport and Decentralisation, OECD Publishing, Paris, https://doi.org/10.1787/9789282113431-4-en.

[2] DEMOCRATIC DECENTRALIZATION PROGRAMMING HANDBOOK, USAID 2009, PP 10

[3] DEMOCRATIC DECENTRALIZATION PROGRAMMING HANDBOOK, USAID 2009, PP 10 , 2009

[4] UNDP: DECENTRALIZATION: A SAMPLING OF DEFINITIONS, pp 18, 1999

[5] DEMOCRATIC DECENTRALIZATION PROGRAMMING HANDBOOK, USAID 2009, PP 14-15 , 2009

[6] UNDP: DECENTRALIZATION: A SAMPLING OF DEFINITIONS, pp 9, 1999

[7] Decentralization Briefing Notes, World bank, pp 2, 1999

[8] وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني: وسائط السلطة في بلاد الشام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2017، ص 183

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى