آراء و ومقالات

مؤتمر النصر في دمشق: إعادة هيكلة الدولة أم إعادة إنتاج الأزمات؟


محمد عباس

عُقد اليوم في دمشق ما سُمي بـ”مؤتمر النصر”، حيث تم الإعلان عن قرارات مفصلية تتعلق بمستقبل سوريا، أبرزها تعيين أحمد الشرع رئيسًا للمرحلة الانتقالية، وحل مجلس الشعب، والجيش السوري، وحزب البعث العربي الاشتراكي، بالإضافة إلى وقف العمل بدستور عام 2012 وإلغاء جميع القوانين الاستثنائية. ورغم أن هذه الخطوات تبدو كإجراءات تهدف إلى إحداث تغيير جذري، إلا أنها تثير العديد من التساؤلات الجوهرية حول طبيعة المرحلة المقبلة، ومدى اتساقها مع المبادئ الوطنية و الديمقراطية، والأهم من ذلك: من المستفيد الحقيقي من هذه التغييرات؟
أحد أكثر الجوانب المثيرة للقلق في هذا المؤتمر هو غياب أي إعلان دستوري ينظم شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية. فمن الناحية السياسية، فإن تعليق العمل بالدستور دون تقديم بديل مؤقت يعني أن البلاد ستُدار وفقًا لمعايير غير واضحة، ما يفتح الباب أمام الفوضى القانونية والسياسية. فبدون إطار دستوري واضح، ستكون جميع القرارات والإجراءات الحكومية خاضعة لتفسيرات متضاربة وقد تُستخدم لتحقيق مصالح ضيقة بدلاً من المصلحة العامة. وهذا يضع القيادة الجديدة في موضع الشبهة، إذ كيف يمكن لها أن تطلب من الشعب والمجتمع الدولي الاعتراف بشرعيتها بينما لا تستند إلى أي مرجعية قانونية واضحة؟
إضافة إلى ذلك، يبدو أن هذه التحولات تمت بطريقة انتقائية، حيث تم إقصاء مكونات أساسية في سوريا بعينها من هذا المؤتمر، وعلى رأسها الحركة السياسية الكردية بشقيها السياسي والعسكري الممثل الشرعي والوحيد للشعب الكردي في سوريا، و كذلك معظم الاطر السياسية ومنظمات ولجان المجتمع المدني، هذا الإقصاء لا يعكس فقط انعدام الرغبة في بناء دولة شاملة، بل يظهر أيضًا نزعة استبدادية تُشابه النهج الذي يفترض أن القيادة الجديدة جاءت للقضاء عليه. كما أن تغييب قوى سياسية أخرى يثير الشكوك حول مدى جدية النظام الجديد في تحقيق التعددية السياسية، أم أن ما جرى ليس سوى إعادة إنتاج لحكم أحادي ولكن بوجوه مختلفة؟
أما على الصعيد الإقليمي، فإن هذه التغييرات تبدو أقرب إلى تنفيذ أجندات خارجية منها إلى تحقيق تطلعات السوريين. فمن الواضح أن ما تمخض عنه مؤتمر دمشق جاء متماشياً مع التوجهات التركية، سواء من خلال تجنب حل الفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة أو من خلال عدم التعامل مع قضية الاحتلال التركي لشمال سوريا بجدية. فبينما تم حل الجيش السوري كقوة نظامية، تُركت الفصائل التابعة لتركيا دون أي قيود أو مساءلة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان الهدف الحقيقي هو إعادة هيكلة الدولة، أم إعادة هندسة القوى الفاعلة بطريقة تناسب المصالح التركية أكثر من المصالح الوطنية السورية.
هذا الميل الواضح نحو التوجهات التركية يضع القيادة الجديدة في موقع ضعيف إقليمياً، حيث تحاول الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، فك ارتباط دمشق عن المحور التركي لصالح مقاربات أكثر استقلالية. ولكن، في ظل القرارات الأخيرة، يبدو أن القيادة الجديدة في دمشق قد اختارت الاصطفاف مع أنقرة، مما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة عربياً وإلى تآكل فرص سوريا في إعادة الاندماج في محيطها العربي والدولي بشروط أكثر توازناً.
أما فيما يتعلق بمستقبل القوى العسكرية داخل سوريا، فالمشهد لا يزال ضبابياً. فبينما لم يتم حل الفصائل المدعومة تركياً، فإن وضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لا يزال غير محسوم، ما يعني أن البلاد قد تكون على أعتاب صراع جديد بين القوى التي لم يتم استيعابها أو تصفية وضعها القانوني. إن عدم وجود استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه القوات يوحي بأن المرحلة القادمة ستكون مليئة بالاضطرابات الأمنية والسياسية، وربما نشهد تصاعدًا في الصراعات الداخلية بدلًا من تحقيق استقرار حقيقي.
في المجمل، يبدو أن ما جرى في “مؤتمر النصر” لم يكن سوى إعادة ترتيب للأوراق بما يخدم أجندات إقليمية محددة أكثر من كونه خطوة حقيقية نحو بناء دولة ديمقراطية. فغياب الضمانات الدستورية، والإقصاء الممنهج لمكونات أساسية في سوريا، والانحياز غير المبرر لصالح تركيا، كل ذلك يؤكد أن المرحلة الانتقالية في سوريا لن تكون سوى إعادة تدوير للأزمات القديمة ولكن بغطاء جديد. ما لم يتم تصحيح هذه المسارات سريعًا، فإن البلاد ستبقى في حالة من الاضطراب، وستكون القيادة الجديدة عرضة لفقدان شرعيتها محليًا وإقليمياً، مما قد يجر سوريا إلى مزيد من الفوضى بدلاً من تحقيق النصر الذي يتحدثون عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى