آراء و ومقالات

الديمقراطية التوافقية هي الضامنة لوحدة سوريا واستقرارها

بقلم : شاهين الأحمد

بداية من الأهمية بمكان التذكير بأن دول منطقتنا صممت وفق مصالح وإرادة الدول الاستعمارية التي تقاسمت شرقنا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. بمعنى الحدود السياسية – الإدارية لهذة الدول هي حدود مصطنعة تم رسمها وفرضها رغماً عن إرادة شعوب المنطقة. والمحزن أن غالبية هذه الدول تحولت إلى شبه مزارع للدكتاتوريات العسكرية التي حكمت المنطقة لعقود طويلة . والاحتجاجات الشعبية (ثورات الربيع) كان لها الفضل في إسقاط العديد منها بفضل التضحيات الجسيمة التي قدمتها شعوب المنطقة. وبما أن سوريا شملتها الاحتجاجات، وشاهدنا وشاركنا في تلك الفعاليات التي رافقتها ظهور منصات معارضة مختلفة لتأطير عمل المعارضة وتنظيم طاقاتها ، فكان المجلس الوطني السوري ومن ثم الائتلاف إضافةً لعشرات المنصات الأخرى. ونتيجة نزوح الملايين، وتوفر هوامش مؤقتة من حرية التعبير عن الرأي حصل مايشبه الانفجار في مخزون الكلمات المحبوسة، فتشابكت الأقلام، وظهرت الكتابات والتصورات المتناقضة، وخاصةً من جانب متصدّري المشهد المعارض، وسط غياب مشروع وطني سوري تغييري وواقعي جامع في برامج كل تلك الكيانات .
والمفارقة أن غالبية المتصدّرين للمشهد المعارض كانوا في مؤسسات البعث ومراكز القرار والأجهزة الأمنية حتى بعد انطلاق الاحتجاجات بأكثر من سنة، ومن ثم انتقلت من خندق النظام إلى خندق المعارضة وتصدّرت مؤسسات الثورة والمعارضة! وفي مناسبات كثيرة كانت مقارباتها لمستقبل سوريا قريبة جدا من مقاربات أركان النظام لدرجة يصعب على المرء التمييز بينهم وبين زملائهم الذين اختاروا البقاء مع النظام وأجهزته الأمنية، وذلك لجهة الموقف من القضايا الوطنية الأساسية مثل وجود وحقوق مكونات الشعب السوري، وشكل الدولة وطبيعة نظام الحكم، والدفاع عن الشمولية ومركزية نظام الحكم، وحصر مطاليبهم في تغيير رأس النظام فقط كونه كان محسوباً على الطائفة العلوية!.
ولدى مناقشة مستقبل سوريا نرى أن غالبية الذين خرجوا من النظام وعليه يحلمون بحقبة أخرى للتحكم بمصير الشعب من جديد ووفق مقياس (الأغلبية و الأقلية)، لإعادة استنساخ تجربة البعث الفاشلة بدلاً من التفكير بفسح المجال أمام كافة مكونات الشعب السوري للمشاركة في عملية البناء والحكم . مناسبة الكتابة في هذا الموضوع هي : انهيار النظام وهروب رأسه وأركانه ، وضرورة إجراء حوار بين السوريين حول مستقبل دولتهم وشكلها، وطبيعة نظام الحكم فيها، ووجود وحقوق مكونات الشعب، والعلاقة بين الدين ومؤسسات القرار السياسي في الدولة، ومسألة المرأة والشباب … إلخ . لأن هنال تخوف مشروع من المستقبل وخاصة بعد أكثر من ستة عقود من حكم البعث من ضمنها أكثر من نصف قرن من حكم آل الأسد وأربعة عشر عاما من الحرب والدمار والتهجير، وبالتالي حاجة السوريين لتوضيح وشرح بعض المفاهيم والمصطلحات مثل أشكال الديمقراطية وآليات عملها لقطع الطريق على محاولات الاستئثار بالسلطة والثروة وحرمان بعض مكونات الشعب السوري، وكذلك الجدل الذي أدى إلى إعادة استخدام مصطلحات ومفردات كانت شبه ممنوعة في النقاشات الخجولة والمحدودة التي كانت تجري في ظل دولة البعث قبل انطلاق الاحتجاجات الثورية، والتي بدأت تطال اليوم مسائل جوهرية مثل الدستور وشكل الدولة ومفهوم الأغلبية والأقلية، والفرق بين الشعوب والأقليات القومية واستحقاقاتها، حيث أزالت المناخات الحالية نسبياً الغبار عن قضايا فكرية وسياسية كثيرة، وفتحت الباب أمام مناقشتها واتخاذ الموقف منها في محاولة لدحض مزاعم البعض ومحاولاتهم اليائسة بإعطاء انطباع وكأن الاحتجاجات هي فقط لتحسين الأوضاع المعيشية !.فكان طرح هذه القضايا مؤشراً جميلاً على وعي متقدم من قبل السوريين، والذي تجسّد بشكل واضح في الحراك الفكري الذي انطلق هو الاخر مع الحراك الشعبي، وحصول مايشبه الانفجار في ترسانة الأفكار والآراء والتصورات التي كانت مقموعة وممنوعة ومشوهة في جزء منها على مساحات الوطن الذي حوّله البعث إلى شبه مزرعة خاصة به. وهنا لابد لنا الإشارة إلى بعض الجوانب الهامة التي تتعلق بشكل الديمقراطية الذي يناسب سوريا كدولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب والثقافات :
1- يكاد يكون الصراع بين الحاكم والمحكوم، والأغلبية والأقلية قائماً بشكل دائم حتى في ظل حكم الأنظمة الديمقراطية نتيجة الخلل في معادلة الشراكة في الإدارة والحكم، لذلك وجب على الجميع البحث عن صيغة أو شكل ينهي هذا الصراع، ويحقّق التوازن في هذه العلاقة الإشكالية. وهنا من الضرورة أن نورد تجربتي الفيدرالية في العراق وسويسرا. نلاحظ أن سويسرا دولة ناجحة ومستقرة بكل المقاييس، ومزدهرة اقتصادياً، لأنها جعلت الديمقراطية التوافقية منهجاً لعملها وبين مختلف مكوناتها، واعتمدت الفيدرالية كشكل لدولتها، والعلمانية لهويتها، فتحولت هذه التجربة ووفق مبدأ التوافق والشراكة إلى أهم عامل لتقوية وحدة الدولة السويسرية. في حين نرى العراق منقسماً فعلياً نظراً لاعتماد مبدأ الأغلبية العددية وحرمان وإقصاء الأقلية، ورفضت الأغلبية مبدأ الشراكة، وغياب التوافق والتوازن، وفشلت النخب في تعريف هوية العراق هل هي دولة علمانية أم دينية؟. كل ذلك نتيجة استئثار مرجعيات دينية عائدة للمكون الشيعي الذي يشكل الأغلبية العددية بكل مقدرات الدولة، وتحاول قيادات هذه الأغلبية بشتى الوسائل ممارسة الاقصاء بحق المكون الكوردي والمكون العربي السني وغيره من مكونات العراق، وبالتالي بقيت الدولة العراقية – باستثناء اقليم كردستان – تعاني الفقر والجهل وعدم الاستقرار بالرغم من غناها بالثروات. بالمقارنة نلاحظ أن التجربتين المذكورتين متماثلتين لجهة اعتماد الفيدرالية كشكل للدولة، ولكن الأولى (سويسرا) أخذت بنموذج الديمقراطية التوافقية فنجحت وازدهرت. في حين نلاحظ أن الثانية (العراق) بقيت ضعيفة ومنقسمة ومتخلفة في مختلف المجالات نتيجة اعتمادها سلاح الأغلبية العددية في الحكم والإدارة.
2 – الأغلبية المذكورة في الديمقراطيات كأنظمة حكم هي الأغلبية “الوطنية ” وليست القومية أو الدينية أو المذهبية. بمعنى أن المفاضلة فيها تكون على أساس المشاريع الوطنية، والاستقطابات والتحالفات تكون على أساس خدمة الوطن والمواطن، وبالتالي طالما أن مجتمعاتنا تعيش في مرحلة مازال فيها المجتمع الوطني مغيباً، والمجتمع المدني ضعيفاً، والسيادة والسيطرة للمجتمع الأهلي نتيجة دوام القبيلة والعشيرة والعلاقات الاجتماعية البدائية المتخلفة، لا يمكن الحديث عن الأغلبية على أساس الشراكة الوطنية لعدم توفر مقوماتها، وبالتالي أي نسخة ديمقراطية ناتجة عن ممارسة ميكانيكية لآليات العمل الديمقراطي في بيئتنا من خلال الأغلبية المنتمية للمجتمع الأهلي ستكون نتائجها كارثية على الجميع.
3 – هذه القاعدة (الأغلبية و الأقلية) العددية لا يمكن أن تقدم نموذجاً لحل قضايا شعوب المنطقة، وفي مقدمتها قضية الشعب الكوردي الموزّع على دول المنطقة، والذي يشكّل المكوّن الأقل عدداً في تلك الدول، وبالتالي يعني حرمان الشعب الكوردي وبشكل دائم من حقوقه بسبب الفهم الخاطئ والتطبيق الميكانيكي للديمقراطية، وإقصائه من المشاركة في الحكم والإدارة، وهكذا بالنسبة للمكوّن العربي السني في العراق، والمكونات الأقل عددا في سوريا. بمعنى أن التعامل الجامد والفهم الخاطىء لآليات العمل الديمقراطي قد يؤدي بنا إلى إنتاج ديكتاتوريات شمولية جديدة من خلال آليات ديمقراطية خاطئة.
4 – الدستور السوري المستقبلي يجب أن يتضمن مواد فوق دستورية ضامنة لحقوق مختلف مكونات الشعب، ووفق ضوابط واضحة لقطع الطريق على أية محاولة من جانب الأغلبية العددية من شأنها حرمان المكونات الأقل عدداً من استحقاقاتها، وبيان آليات العمل الديمقراطي وفق مبدأ التوافق الذي يناسب مجتمعاتنا المتنوعة، وفسح المجال لمشاركة الجميع في عملية البناء والإدارة والحكم. وهنا من الأهمية أن نشير إلى أن البرلمان السوري المستقبلي يجب أن يتكون من غرفتين أو مجلسين ، مجلس للمكونات تناط به صلاحية القرارات المصيرية داخلياً وخارجياً. ومجلس لنواب الشعب على أساس النسبة لكل مكون وكل منطقة، ويعود إليه صلاحية التشريعات.
5 – الديمقراطية التي تعتمد على مبدأ التوازن هي التي تناسب مجتمعاتنا المتنوعة قومياً ودينياً ومذهبياً، لأن مصالح الأغلبية قد تتعارض مع مصالح الأقلية والأفراد، وهنا لا بد من البحث عن شكل محدد من الديمقراطية وآلية واضحة لتحقيق التوازن بشكل عادل ودقيق بين مختلف الشرائح والمكونات، وتأتي الديمقراطية التوافقية كأنسب شكل لتحقيق هذه المعادلة، وبالضرورة أن يترافق ويتلازم هذا النموذج من الديمقراطية باللامركزية السياسية والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وكذلك فإن هذا الشكل يبقى مشلولاً إن لم يكن هناك فصل بين الدين والمؤسسات السياسية للدولة، وهنا تكمن أهمية وضرورة فدرلة الدولة في هذه المنطقة كشكل وضرورة لتجسيد التوافق والتوازن ومشاركة الجميع، وقاعدة أساسية لإقامة النظام الديمقراطي .
6 – تكمن أهمية الديمقراطية التوافقية في تهيئة الأرضية المناسبة للسير نحو تأسيس دولة المواطنة المتساوية من خلال حل الإشكالية بين الأغلبية والأقلية في كيفية المشاركة في الحكم والإدارة، وهذا النموذج نجده في البلدان التي قطعت أشواطاً عملية في مسار دولة المواطنة مثل سويسرا وبلجيكا وغيرهما، حيث يشكل التوافق السمة الأساسية في حقول الثقافة السياسية في البلدان المذكورة بغية قطع الطريق على هيمنة مجموعة معينة على الحكم والإدارة .
خلاصة القول : اختيار النموذج المناسب لبلدنا سوريا والمتمثل في الديمقراطية التوافقية ناتج عن ضرورات تمليها تركيبة مجتمعنا المتنوعة قومياً ودينياً ومذهبياً، وهذا التنوع ليس عيباً أو بدعة أو تآمراً من أحد، إنما هو واقع نعيشه، وقدرٌ نؤمن به، وعامل إغناء وقوة نفتخر به. كون سوريا حالها حال بقية دول المنطقة تم رسمها وتصميم حدودها الإدارية والسياسية من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ولم تكن لمكوّنات الشعب السوري أي رأي في رسم هذه الحدود. ومن خلال دراسة أنماط الحكم الديمقراطي يتبين بوضوح أن الديمقراطية التوافقية بنموذجها المسنود على اللامركزية السياسية يشكل الخيار الأمثل ليس فقط أمام شعوب سوريا للمشاركة العادلة في الحكم والإدارة فحسب، بل في الحفاظ على بلدنا موحداً ومستقراً .

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
شاهين الأحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى