المؤتمر الوطني السوري المزمع: بين الشمولية وإعادة إنتاج الإقصاء”

محمد عباس
المؤتمر الوطني السوري المزمع انعقاده سيكون محطة مفصلية في إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري، وفرصة لوضع أسس الدولة المستقبلية بعد أكثر من عقد من النزاع والصراع السياسي والعسكري. إنّ نجاح هذا المؤتمر يعتمد بشكل أساسي على مدى شموليته وتمثيله لكافة مكونات الشعب السوري، دون تمييز أو إقصاء. وإذا كان الهدف الحقيقي لهذا المؤتمر هو تأسيس دولة ديمقراطية قائمة على التعددية والمواطنة الحقيقية، فلا يمكن القبول بأي صيغة إقصائية تتجاهل حقوق أي مكون من المكونات الأساسية السورية وفي مقدمتهم الشعب الكردي، أو تضع قضاياهم على هامش النقاشات السياسية. في هذا السياق، تبرز ضرورة معالجة القضية الكُردية كجزء لا يتجزأ من مسار الحل الوطني، وعدم اختزال المؤتمر في كونه حوارًا عربيًا بصبغة سورية، بعيدًا عن مفهوم الشراكة الفعلية.
إنّ المواطنة المتساوية تشكل الركيزة الأساسية لأي نظام سياسي حديث، ولا يمكن بناء سوريا جديدة دون اعتماد مبدأ التوافق الوطني الذي يعترف بالحقوق السياسية والقومية لجميع مكونات البلاد. ومن هذا المنطلق فإنّ التعامل مع الشعب الكردي وفق منطق الأقليات، أو وضعهم في إطار مطالب جزئية يمكن تأجيلها أو تجاهلها، يتناقض مع الأسس الدستورية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. فالحقوق السياسية لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تمتد إلى الحقوق الجماعية التي تضمن الحفاظ على الهوية القومية والثقافية ضمن الدولة الواحدة. ومن دون الاعتراف الصريح بهذه الحقوق، فإن أي مخرجات لهذا المؤتمر ستظل ناقصة وغير قابلة للتطبيق على المدى البعيد، مما يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
التجارب الانتقالية في دول ما بعد النزاعات أظهرت أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاعتراف الفعلي بحقوق جميع المكونات وصياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على مبادئ العدالة التوزيعية والمشاركة السياسية المتساوية. تجربة العراق على سبيل المثال، كانت نموذجًا واضحًا على أن أي محاولة لفرض هوية قومية واحدة على دولة متعددة المكونات تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي واستمرار التوترات السياسية. و إذا ما قرأنا في الحالة السورية، يجب أن يكون المؤتمر الوطني المرتقب أكثر شمولية، بحيث يحدد مبادئ أولية وهو الاعتراف الدستوري بكل المكونات و بحقوق الشعب الكردي على وجه الخصوص وباقي، وأن يتم وضع اللبنات الأساسية لحل عادل للقضية الكُردية ضمن إطار الدولة السورية، سواء من خلال نموذج الفيدرالية، أو الحكم الذاتي، أو أي صيغة أخرى تعكس حقيقة التعدد القومي في البلاد، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى فإن أي محاولة لإقصاء تمثيل الشعب الكردي في المؤتمر المزمع انعقاده، أو التعامل معه كطرف ثانوي في العملية السياسية، لا يعدو كونه إعادة إنتاج لنهج المركزية القومية الذي كان سببًا رئيسيًا في الأزمات السورية على مدى العقود الماضية. إن مفهوم الدولة القومية ذات الطابع العربي، كما رسخته دساتير البعث، لم يعد يتناسب مع الواقع السوري المتغير، والاستمرار في تبني هذا النهج لن يؤدي إلا إلى تكريس الإقصاء وإضعاف فرص بناء دولة مستقرة. على العكس، فإن أي مشروع وطني حقيقي يجب أن يعيد تعريف الهوية السورية كهوية متعددة القوميات والثقافات، تعكس الواقع السياسي والاجتماعي لسوريا اليوم.
من الناحية القانونية، فإن أي مؤتمر وطني يسعى إلى تحقيق شرعية حقيقية يجب أن يلتزم بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي و حقوق الإنسان، لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية حماية حقوق الأقليات الصادرة عن الأمم المتحدة وغيرهم من المعاهدات والاتفاقيات الدولية. وبالتالي أي تجاهل لهذه الأساسيات لن يشكل فقط انتهاكًا لهذه المبادئ، بل سيضع مستقبل النظام السياسي السوري في حالة تناقض مع التزاماته الدولية، مما قد يؤدي إلى استمرار العزلة الدبلوماسية، وعرقلة أي محاولات للاعتراف بشرعية مخرجات المؤتمر على المستوى الإقليمي والدولي. أضف إلى ذلك فإن أي تسوية سياسية تتجاهل هذه الحقائق أو تحاول فرض حلول غير توافقية ستؤدي إلى خلق ديناميكيات وصراعات جديدة، قد تتطور لاحقًا إلى مواجهات عسكرية وتدخلات إقليمية ودولية، كما حدث في العديد من الدول التي فشلت في استيعاب تنوعها القومي.
السبيل الوحيد لتجنب مثل هذا السيناريو هو ضمان المشاركة الفاعلة لجميع المكونات السورية العرقية والدينية والمذهبية في المؤتمر و على قدم المساواة وعلى رأسهم الشعب الكردي، ومنحهم دورًا فاعلًا في صياغة الدستور الجديد، بحيث يُنص صراحةً على حقوقهم القومية والسياسية ضمن إطار دولة ديمقراطية لا مركزية.
إن المؤتمر الوطني السوري المرتقب يجب أن يكون فرصة حقيقية لتصحيح أخطاء الماضي وبناء سوريا على أسس جديدة تعكس إرادة جميع مكوناتها، وليس مجرد إعادة إنتاج للنخب التقليدية التي استندت إلى الإقصاء والهيمنة القومية. سوريا الجديدة لن تُبنى من خلال تفاهمات فوقية لا تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، بل من خلال شراكة حقيقية بين جميع مكوناتها و الشعب الكردي على وجه الخصوص، الذين ليسوا مجرد طرف في المشهد، بل جزء أساسي من الهوية الوطنية السورية. إن تحقيق السلام والاستقرار الدائم يتطلب نهجًا يبتعد عن الحلول الشكلية، ويركز على معالجة القضايا الجوهرية وجعلها من الأولويات، لكي تتم المصالحة الوطنية الحقيقة على أساس العدالة والحقوق والشراكة الفاعلة خاصة بعد اكثر من عقد من الصراعات السياسية والعسكرية بين أبناء الوطن الواحد .

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس