ثقافة الحقد… ومأزق الدولة الأحادية: قراءة نقدية في خطاب التعايش وحقوق المكونات السورية

خالد حسو
في اللحظة التي تتهاوى فيها الدول تحت وطأة الحروب الأهلية، والانقسامات الإثنية، ونزعات الاستعلاء القومي، يظهر وجه جديد للاستبداد، قد لا يحمل بزّة العسكر، بل يتدثر برداء الأكثرية المهيمنة، ويمارس الإقصاء باسم “الهوية الوطنية الجامعة” التي لا تعترف إلا بمن يتماهى معها ويذوب في قوالبها. في هذا المشهد، تُستباح الهويات، ويُجرّم التعدد، وتُقصى الشعوب عن تاريخها وجغرافيتها وحقها في تقرير مصيرها، بحجة الحفاظ على وحدة ترابية أكلها التسلّط وسحقها الإنكار.
النص المطروح الذي يقدّم رؤية لضرورة “توطين قيم الحرية والعدالة والمساواة”، يتجاوز كونه دعوة أخلاقية، أو بيانًا حقوقيًا عابرًا، إلى كونه نقدًا جوهريًا لبنية الوعي السياسي العربي السائد الذي لا يزال عاجزًا عن تقبّل “الآخر” المختلف، خاصة عندما يكون هذا الآخر شعبًا كاملًا، له لغته وتاريخه وأرضه وحقّه الطبيعي في رسم مصيره.
أولًا: من الدولة القومية إلى الدولة التعددية
ينطلق النص من الإيمان بأن “السلام الحقيقي لا يمكن تحقيقه دون تعايش”، وهي مقولة بسيطة ظاهريًا، لكنها تهدّم في عمقها أطروحة الدولة الأحادية. فالدولة التي تؤسّس هويتها على إنكار قومياتها، تصبح عاجزة عن بناء عقد اجتماعي سليم. لقد فشلت الدولة القومية في العالم العربي في استيعاب المكوّنات غير العربية، وأنتجت مآسي متراكبة من التعريب القسري، والتهميش، والمجازر، والنفي، ما حوّل الانتماء الوطني إلى سجن، وأفرغ فكرة “المواطنة” من مضمونها الحقوقي.
النص يضع إصبعه على الجرح السوري: كيف يمكن أن ندّعي السلم الأهلي، ونحن ننكر على الكرديّ لغته، وعلى السرياني تراثه، وعلى الآشوري ذاكرته، وعلى الأمازيغي ثقافته؟ كيف نقول “الوحدة الوطنية” ونحن نبنيها على الإلغاء لا على الاعتراف؟ بل كيف نطالب بالسلم دون أن نعترف دستوريًا بوجود شعوب كاملة تعيش في قلب الدولة وتُعامل كأقليات تابعة؟
ثانيًا: تقرير المصير ليس انفصالًا بل استعادة
يرتكز النص على مبدأ “حق تقرير المصير”، لا بوصفه تهديدًا لوحدة الدول، بل كحقّ طبيعي، منصوص عليه في كل المواثيق الدولية، ومنصوص عليه حتى في بدايات تأسيس منظمة الأمم المتحدة نفسها. والمفارقة أنّ من يعارضون هذا الحق، هم أنفسهم من احتفلوا به حين نالت بلادهم الاستقلال عن المستعمر.
لكنّ التقرير هنا ليس مجرد مشروع جغرافي للانفصال، بل مشروع وجودي للكرامة. أن يقرّر شعبٌ مصيره، يعني أن يكون له حقّ اختيار لغته، وتاريخه، ونظامه التعليمي، ومؤسساته، ومرجعيته الثقافية، وكيانه السياسي في إطار جامع أو فدرالي أو لا مركزي. أيّ تهويل لهذا المبدأ، إنما يعكس خوف النظام المركزي من فقدان سيطرته لا خوفه على وحدة البلاد.
ثالثًا: تفكيك خطاب الكراهية بوصفه عملاً تأسيسيًا
ربط النص بين توطين قيم العدالة وتفكيك ثقافة الحقد، هو في ذاته عمل تأسيسي لفهم جديد لطبيعة المواطنة. الحقد لا يولد من فراغ؛ إنه نتاج لخطاب رسمي، ومناهج تعليمية، وإعلام مشحون، وتربية تقوم على التمييز والتفوق العرقي والديني والمذهبي.
عندما يُربّى الطفل على أنّ قوميته هي الأرقى، وأن لغته هي “لغة السماء”، وأن الآخر دخيل، غريب، انفصالي، لا ولاء له، فماذا ننتظر غير الانفجار؟ كيف نُطالب بسلام مجتمعيّ دون إيقاف ماكينات التحريض؟ كيف نؤسّس للعدالة دون مراجعة جذرية للبنية القانونية التي تصمت عن جرائم التمييز؟
رابعًا: الوطن ليس ضيعة أيديولوجية
يبدو النص، في نبرته، وكأنه يريد أن يعيد تعريف “الوطن” بوصفه ملكًا عامًا، لا ضيعة لمكون، ولا مزرعة لطائفة. الوطن لا يكون وطنًا حين تملكُه فئة دون سواها، وتوزّع هواءه وسماءه وخرائطه كما توزّع الغنائم. الوطن لا يكون وطنًا حين تتحوّل الدولة إلى حارس لمصلحة الأكثرية، أو أداة لتطويع التنوع.
لذا فإنّ النص يُطالب بتوسيع معنى الدولة ليشمل الجميع، لا كمجرد “مواطنين متساوين أمام القانون” بالعبارات الإنشائية، بل كشركاء في القرار، في المؤسسات، في صياغة المستقبل، وفي حق الانفصال إن اقتضى الأمر، دون تخوين أو تصغير.
خامسًا: على من تقع مسؤولية السلام؟
يضع النص مسؤولية تحقيق السلام في مكانها الصحيح: على بنية الدولة، لا على ضحاياها. لأنّنا غالبًا ما نُطالب المقهور بالتسامح، والمنفيّ بالتغاضي، والمقموع بنسيان تاريخه. أما هنا، فالنص يجرّد الخطاب من نفاقه، ويعلن بوضوح: لا سلام دون عدالة، ولا عدالة دون اعتراف، ولا اعتراف دون مراجعة جذريّة لبنية الدولة نفسها.
خاتمة:
هذا النص ليس بيانًا ناعمًا عن السلام، بل صيحة في وجه ثقافة قامت على الإقصاء، وتربّت على الإنكار، وخافت من التعدد. إنه دعوة لتفكيك العقل الأحاديّ، وتحويل الوطن من ساحة صراع إلى فضاء شراكة، ومن نظام إكراه إلى عقد حرّ بين مكوّنات متكافئة في القيمة والكرامة والتاريخ.
فهل نحن مستعدون للسلام، أم ما زلنا نراه خضوعًا؟
وهل نملك شجاعة أن نقول: “هذا الآخر… هو أنا بلغة مختلفة”؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
خالد حسو