غزة بين الطوق والطريق

علي مسلم
تلقي تطورات الحرب في غزة بظلالها القاتمة على المشهدين السياسيين الإقليمي والدولي، وتزداد على أثرها وتيرة التجاذبات بين الأطراف الدولية المتحكمة بالقرار الأممي، سيما الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وسط أجواء سياسية اقليمية مقلقة تنذر بمخاطر جمة أولها: ان تبعات هذه الحرب قد لا تقتصر على محيط غزة الجغرافي، بل أنها قد تطال دولاً وكيانات أخرى قريبة أو بعيدة.
ثانيها: ان هذه الحرب اللعينة قد اعادت خلط الأوراق السياسية من جديد، خاصة ما يتعلق منها بمسالة الصراع على مناطق النفوذ الدولي والإقليمي في الشرقين الأدنى والأوسط، وان الحرب الدائرة في غزة لا تشكل سوى تفصيل بسيط في تراجيديا الصراعات الجيوسياسية التي تجري على خلفية إعادة تقاسم مناطق النفوذ، بما في ذلك طرق التجارة العالمية البرية والبحرية التي تربط دول شرق ووسط وجنوب اسيا بقارة اوربا، سيما بعد الإعلان الصيني عن مشروع الحزام والطريق عام 2015 والتي دشنت اليات جديدة في سياق الصراع والتنافس على الموانئ والمضايق الحيوية التي تقع على هذه الطرق.
أما مسألة الإصرار على ديمومة هذه الحرب بالرغم من دلالاتها الخطيرة وتبعاتها الكارثية فذلك برهان جلي على أن نتائج هذه الحرب ستكون مختلفة عن مجمل الحروب التي جرت بين إسرائيل والعرب في السابق، ولا أحد غير الذين اداروا رحاها بوسعهم التكهن بنتائجها حتى الآن، فإيران التي صنعت حركة حماس كذراع عسكري وسياسي خارجي من أجل استخدامها وقت الحاجة. استطاعت ان تتنصل من مسؤولياتها في حماية حركة حماس فور بدء الحرب بحجة عدم التسبب في توسيع دائرة المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الله اللبناني الذي تحاشى دخول الحرب الى جانب حليفتها حماس، اما الحوثين فقد مضوا في استكمال الجزء المهم والمخفي من الخطة المرسومة بمساندة إيرانية مباشرة وتجاهل أمريكي غربي، وسكوت عربي خليجي مريب، ومحاولاتها الحثيثة في تهديد الملاحة في ممر باب المندب وخليج عدن كجزء من خطة استراتيجية إيرانية، وهي تعزيز الحضور الإيراني على مضيق باب المندب بأي ثمن، هذا المضيق الذي يشكل عقدة التواصل الإستراتيجي في مشروع طريق الحرير البحري التي تسعى اليها الصين بالتعاون مع باكستان، بدءاً من ميناء غوادر الواقعة على الحدود البحرية المشتركة بين باكستان وايران (غالباً ما يشار اليها باسم “بوابة بحر العرب”) ، وقد برزت كموقع محوري على خريطة العالم بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي..
في سياق مشابه فقد وصف الصحفي “جيريمن بوين ” محرر الشؤون الدولية في بي بي سي في احدى مقالاته التي نشرها في 14 تشرين الثاني2023 قائلاً: “تختلف هذه الحرب عن الحروب الأخرى لأنها تأتي في وقت تتداعى فيه خطوط الصدع التي تقسم الشرق الأوسط.
فعلى مدى عقدين من الزمن كان الصدع الأكثر خطورة في المشهد الجيوسياسي الممزق في المنطقة بين أصدقاء وحلفاء إيران من جهة، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى”.
واذا كانت ايران قد فقدت نفوذها الاستراتيجي في ميناء غوادر الى جانب خسارتها الباهظة جراء العقوبات الأمريكية على صادراتها النفطية عبر مضيق هرمز، فهي لم تفقد الأمل بعد في تعويض جزء من ذلك عبر الاستحواذ على ما يمكن من نفوذ على مضيق باب المندب، والدخول تاليا كطرف في الصراع على هذا المضيق والتفاوض على مستقبلها، وهذا لم يكن ممكناً دون لجوئها الى خلط الأوراق السياسية من جديد، ومن الواضح أن إدارة بايدن لم تكن بعيدة عن هذه الهواجس كثيراً، لهذا من المتوقع ان يتم دفع الأمور نحو عقد صفقة بينية إسرائيلية خليجية إيرانية بموافقة أمريكية تكون مبنية على تفاهمات قوامها إعادة صياغة المصالح الإقليمية لمجمل الأطراف الإقليمية المتصارعة، والتخلص نهائياً من حركة حماس، هذه الحركة التي اقلقت إسرائيل على مدى سنوات مضت، وباتت تشكل عبئاً إضافيا على ايران استوجب التخلص منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
علي مسلم