آراء و ومقالات

في الحاجة إلى دولة اتحادية في سوريا


مشكلات وتحديات سوريّة يُساعد التصوّر الفيدرالي على حلّها
موريس عايق
الصورة المُريبة للفيدرالية عربياً
لا يحظى مصطلح اتحادي (فيدرالي) بسُمعة طيبة في الفضاء السياسي العربي عامة، فلطالما كان تهمة انفصالية، حيث يقبع خلفه شبح التقسيم. يرجع هذا التاريخ السيء للفيدرالية في أحد جوانبه إلى عهد الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كانت الفَدرَلةُ مشروع «الانعزاليين اللبنانيين»، ويرجع في جانب آخر إلى ما يتعلّق بالمسألة الكردية في العراق. غير أن العامل الأكثر أهمية لرفض الفيدرالية لا يعود إلى الفيدرالية نفسها، إنما يتعلق بالإيديولوجيات التي ألهمت العرب خلال القرن الماضي ونظروا إلى العالم من خلالها. رأت القومية العربية في العرب أمة واحدة متجانسة، فلماذا الفيدرالية إذاً؟ أليست الفيدرالية ذريعة لتقسيم الأمة المُقسَّمة سلفاً على يد المستعمرين! الأهم على المستوى العملي كان مشروع التحديث الذي تقوده الدولة، وهو مشروع شاركت فيه جميع الإيديولوجيات العربية السائدة وقتها، من القومية إلى الاشتراكية وحتى الإسلامية؛ الدولة المركزية التي تتولى مهمة تحقيق التقدم والمواجهة عبر هندسة اجتماعية تفرضها على المجتمع، وهذا ما بدا أنه يقفُ بالتضاد مع الفيدرالية. إن التاريخ السلبي للفيدرالية عربياً لا يرتبط بالفيدرالية حقاً، إنما هو نِتاج الإيديولوجيات المهيمنة نفسها، وهو يستند إلى الصورة التي قدمتها هذه الإيديولوجيات المُهيمنة عن الفيدرالية، والتي تتقاطع في الواقع مع هذه الصورة السلبية المُتخيَّلة لها.

وهكذا فما أن يتم استدعاء الفيدرالية حتى يبدأ الحديث عن تقسيم وإثنيات وطوائف، وعن تَحلُّل الدولة. بهذا ننسى أن العديد من الدول الأقوى والأكثر ازدهاراً في عالمنا هي دول فيدرالية، كما أن الفيدرالية قد تكون مُطبَّقة في دول لا يوجد فيها بالضرورة انقسامات إثنية أو دينية، أو لا تستند إلى مثل هذه الانقسامات في رسم خرائط الأقاليم والولايات، وإن كانت أيضاً في أحيان كثيرة أخرى حلاً لإدارة هذه الانقسامات. الولايات المتحدة دولة فيدرالية وولاياتها ليست مُقسَّمة على أسس دينية أو إثنية، رغم أن المجتمع الأميركي مجتمع شديد التنوع كمجتمع مهاجرين أساساً، مع هوية أساسية للولايات المتحدة تمثلها البروتستانتية الأنغلوساكسونية، والولايات المتحدة هي الدولة الأقوى والأكثر كفاءة وتَقدُّماً ولا تعاني خطر التقسيم.

ألمانيا، سويسرا والهند أيضاً، دول فيدرالية مُتقدمة وقوية وفعّالة. في حالة سويسرا تُنظِّمُ الفيدرالية تعايش الجماعات المختلفة إثنياً ولغوياً ومذهبياً، هذا التنوع الشديد (أربع لغات ومذهبان) تم تنظيمه في إطار اتحاد فيدرالي أسهمَ في إنهاء عهد طويل جداً من الحروب الأهلية هناك.

في المقابل ألمانيا متجانسة على الصعيد الإثني وإن كانت منقسمة مذهبياً بين بروتستانت وكاثوليك، لكن الفيدرالية فيها لا تقوم على أساس من الانقسام الطائفي، بل على أساس من التطوّر التاريخي للإمارات والدوقيات الألمانية التي اجتمعت لتكوين الاتحاد الألماني، وهكذا يقوم الاتحاد الألماني على 16 ولاية اتحادية. كذلك الهند بدورها دولة اتحادية، وليست ولاياتها انعكاساً مباشراً للتنوع الإثني والديني الهندي، بل إن كل ولاية بدورها تحتوي على تَعدُّد إثني ولغوي وديني هائل. بمعنىً آخر، لا يوجد مطابقة مباشرة بين حدود الولايات الفيدرالية وحدود الإثنيات والأديان، وإن ساعدت الفيدرالية وبشدة على تعزيز تعايش هذه التنوعات وحمايتها.

سوريا والحاجة إلى الفيدرالية
علينا تفادي النظر إلى الفيدرالية من زاوية الانقسامات المذهبية والإثنية بشكل حصري، والتأمل في أسباب مغايرة وأكثر أهمية للسعي نحو الفيدرالية في سوريا، وإن كان للانقسامات الأهلية سالفة الذكر إسهامها في تعزيز مشروعية المطالبة بها.

الدافع الأول من أجل تبني الفيدرالية في سوريا يتمثل في الحاجة إلى مواجهة الدولة المركزية.

لم يقتصر تاريخ النزعات السلطوية في سوريا حصراً على البعث أو عهد الوحدة، بل بدأ مبكراً في تاريخ الجمهورية السورية مع شكري القوتلي وتزوير الانتخابات ومحاولة الهيمنة على مفاصل الدولة السورية. كذلك كان تسلُّطَ المركز مُمثَّلاً في المدن الأربع الرئيسية، وما رافقه من إهمال للأطراف، الذي وصل في حالة المنطقة الشرقية (الجزيرة السورية) إلى ما يشبه وضعية استعمار داخلي للمنطقة عبر استنزاف ثرواتها وإهمال تنميتها والتعالي على أهلها والحط من شأن تقاليدهم وثقافتهم. بل إن المركزية المفرطة، التي تضخمت في عهد البعث، أساءت إلى المدن المركزية نفسها، فقد دفعت دمشق وغوطتها ثمن التضخم الديمغرافي المَهول الذي عرفته المدينة ولم تكن قادرة على تحمله وطأته بيئياً وعمرانياً. اختفت غوطة دمشق، وأُجبِرَ كثيرٌ من الدمشقيين على مغادرتها باتجاه الضواحي، وتدهورت الخدمات والبنية التحتية للمدينة التي صار عليها تخديم عدد من البشر يزيد عن قدرتها الطبيعية على استيعابهم.

انطلق تاريخ الدول الحديثة في بلادنا مع لحظتين تأسيسيتين، وهما التحديث المحلي (العثماني ومحمد علي) والدولة الاستعمارية، فحاجات السلطة المركزية المُسيطرة كانت هي العامل الحاسم في تأسيس الدولة وتحديد توجهاتها من أجل إخضاع المجتمع، وهي تركةٌ استمرت في كل تاريخ عملية بناء الدولة المركزية: حصرُ السيادة والسلطة بها وانتزاعهما كلياً من المجتمع، دون أن يكون لهذا المجتمع بالمقابل قدرةٌ على حفظ أشكال مضادة للسلطة لديه في مواجهة الدولة، أو تطوير وسائل تسمح له بمراقبتها وفرض سماع رأيه وأخذ اعتباراته واهتماماته بعين الاعتبار من قبلها.

نظرياً، ورثنا تقليد فصل السلطات من الدول الأوروبية التي كانت بمثابة نموذج معياري لتأسيس دولنا الحديثة، والغاية من هذا الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية منعُ احتكار السلطة من قبل أي طرف لوحده، وتحديداً السلطة التنفيذية، بما يؤدي إلى حكم مطلق. غير أن هذه الغاية لم تتحقق في بلادنا، فقد عجز الفصل النظري بين السلطات عن منع الاحتكار الفعلي للسلطة من قبل السلطة التنفيذية، إذ تحوّلت السلطتان القضائيةُ والتشريعيةُ إلى مجرد استطالات وأذرع للسلطة التنفيذية تتفاوت المساحة الهامشية المُعطاة لها بحسب الدول، إنما دون استقلال حقيقي تحظيان به. كما أن مركز السلطة الفعلية داخل السلطة التنفيذية اقتصر غالباً على الجيش والمؤسسة الأمنية، وأحياناً على قاعدة عصبية أهلية، فيما صارت الأجهزة البيروقراطية امتدادات لهذه العُصبة الحاكمة. تَغوُّلُ الدولة كان السمة البارزة للدول العربية، دُوَلٌ متضخمة ومتغولة على مجتمعاتها، دون أن تتحول إلى دول قوية حقاً. لم ينجح الفصل بين السلطات في تحقيق الغاية المرجوة منه، تقييد السلطة ومنع تَغوُّلها على مجتمعها، وظلَّ ديباجة دستورية لا يؤخذ بها بأي قدر من الجدية مهما كانت ضآلته.

هنا تظهر الفيدرالية خياراً جدياً من أجل تحقيق هذه الغاية، أي تقييد السلطة التنفيذية وضبطها. تُشارك الأقاليم، في نظام فيدرالي، مصادر السلطة والقوة الخاصة بالدولة، تحصيل الضرائب والثروات الاقتصادية وفرض القانون وحمل السلاح والتشريع، حيث تحظى الأقاليم بحكوماتها ومحاكمها وشرطتها الخاصة التي تقوم على تنفيذ القانون، وبمجالسها التشريعية التي تتولى مراقبةَ حكوماتها الإقليمية وإقرارَ التشريعات المحلية الخاصة. تتولى الأقاليم تحصيل الضرائب وتحويل جزء منها إلى المركز، كما تتكفل حكومات الأقاليم بإدارة الثروات الخاصة بالأقاليم وامتلاك مشاريع عامة تعود ملكيتها لها، بالمشاركة مع الحكومة المركزية، وهذه الأخيرة تكون عادة مالكة للمشاريع ذات الطابع القومي.

إذا لم يؤدِّ الفصل العمودي بين السلطات الثلاث الغرضَ الفعلي منه فيما يتعلق بتقييد السلطة وضبطها، عندها يمكن أن يدعمَ الفصلُ الأفقي المُضاف (الفصل على مستوى حكومات الأقاليم) توزيعَ السلطة ومنعَ تراكمها في مكان واحد. كما أن الفصل بين السلطات الثلاث لن يكون مقتصراً على مستوى الدولة المركزية، بل يمتد أيضاً إلى الأقاليم، حيث يكون لكل إقليم أيضاً سلطاته الثلاث المنفصلة، والتي تتم مراقبتها من طرف المركز، فالمُراقبة هنا تذهب في اتجاهين، من المركز إلى الإقليم وبالعكس.

لن تكون الأقاليم مُجرَّد جهاز إداري حصراً، إنما تعكس نفسها أيضاً داخل العملية التشريعية على مستوى المركز. فالنظام الفيدرالي يُرافقه عادة مَجلسان تشريعيان، مجلس نواب يتم انتخابه وطنياً ويتولى التشريع، ومجلس شيوخ يُعبّر عن الأقاليم (وأي فئات أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار)، وعادة ما يكون له سلطة النقض أكثر من كونه مجلسَ تشريع. يؤمن مجلسُ النواب تطوير هوية وطنية عامة، فيما يضمنُ مجلس الشيوخ حماية وصيانة التنوعات الأهلية والتاريخية والإقليمية وحفظها من التعدي والإهمال.

تتباين أهمية مجلس الشيوخ وحدود صلاحياته بين الدول المختلفة، فأهمية مجلسي الشيوخ الأميركي تفوق كثيراً مجلس الشيوخ الألماني مثلاً. كما تتباين أنظمة الحُكم في الفيدراليات، ففي حين تملك الولايات المتحدة نظاماً رئاسياً (ولكن وبفضل النظام الفيدرالي فإن صلاحيات الرئيس تبقى مُقيَّدة في الداخل بصلاحيات الولايات) فيما تحظى ألمانيا والهند وسويسرا بأنظمة برلمانية.

إضافة إلى الحاجة المرتبطة بتوزيع السلطة أفقياً وعمودياً ومنع تراكمها واحتكارها في مكان واحد، تدعم الفيدرالية تطوير الأقاليم والمناطق انطلاقاً من خيارات سكانها وحاجاتهم وقراراتهم. فالمناطق لن تخسر ثرواتها لمصلحة المركز دون أن تنال منها إلا اليسير، ولن تُفرَض عليها خطط تنمية ومشاريع لا تتناسب مع احتياجاتها ولا تُراعي رغبات أهلها لأنها مفروضة من المركز. في الحالة السورية، فإن هذا لا يُفيد فحسب الأطراف التي كانت عُرضة لإهمال مديد من قبل المركز، أساساً منطقة الجزيرة وبشكل أقلّ حوران، إنما أيضاً مدينة كبرى مثل حلب التي تَراجَعَ دَورُها لمصلحة دمشق رغم المكانة الاقتصادية الأكثر أهمية لحلب. لا يقتصر هذا على المشاريع الاقتصادية والتنموية، بل يمتد أيضاً إلى السياسات الثقافية الخاصة بكل إقليم، فمناطقُ سوريا المختلفة تَعرف تنوعاً أهلياً وتقاليدَ متنوعة ومُتغايرة، ففي الجزيرة هناك أكراد وأرمن وسريان إضافة إلى العرب، بينما يسود العرب عامة وبشكل كبير في باقي سوريا، مع وجود الأكراد والتركمان والأرمن في حلب ومناطقها، بينما يسود التنوع المذهبي والديني في وسط وغرب وجنوب سوريا. لا يمكن أن توجد سياسة ثقافية واحدة تُعبّر عن الجميع، حتى لو أخذت هذه التنوعات بعين الاعتبار. فمثلاً، لا شيء يستدعي التعامل مع «المسألة الكردية» بالنسبة لسكان وسط وجنوب وغرب سوريا، بينما هي مسألة مركزية في الجزيرة، يجب أخذها في الاعتبار على كل مستوى من مستويات الحياة فيها.

هل الفيدرالية السورية تتماهى حصرياً مع انقسامات إثنية/طائفية؟
رغم التنوع الأهلي الكبير في سوريا، فإن الفيدرالية السورية لا يمكن أن تتماهى مع الانقسامات الأهلية، الإثنية والدينية والمذهبية. تقريباً لا يوجد سوى الساحل الذي يمكن أن يكون إقليماً يحظى بهوية خاصة. السويداء وحدها يصعب أن تكون إقليماً، وعلى الأرجح فإنها ستكون جزءاً من إقليم يضمّ حوران كلها؛ السويداء ودرعا والقنيطرة، وعندها لن يكون إقليما درزياً، وإن سيكون للدروز فيه وزن فعال يتجاوز بكثير جداً وزنهم في سوريا. الحالُ نفسه مع الكُرد، فأيّاً تَكُن خريطة الإقليم الشرقي، فإنه لن يكون إقليماً كردياً، بل إقليماً يشكل الكُرد فيه جماعة وازنة وكبيرة (بنِسَب تختلف بحسب خريطة الإقليم). حلب ودمشق بالتأكيد ستكونان أقاليم مختلفة، رغم التشابه العام في تركيبتهما الإثنية والدينية عموماً.

ستحظى الجماعات المذهبية والإثنية بدور فعّال في الأقاليم التي تشكل فيها وزناً كبيراً، الكردية ستكون -مع العربية- لغة رسمية إضافية في الإقليم الشرقي، ويمكن الاعتراف بلغات أخرى هناك مثل السريانية، دون أن يستدعي هذا جعلها لغة رسمية على مستوى الاتحاد (وإن تم الاعتراف بها، وهو أمرٌ ضروري). هذه الجماعات تمتع بالكثير من القوة والقُدرة على تطوير سياسات ثقافية إقليمية تُناسب حاجاتها، دون أن تنحلَّ في مجرد صدىً لتمايُزها المذهبي والإثني، خاصةً أن الجميع موجودون أيضاً داخل الإقليم. والسياسات الخاصة بالإقليم لا تنعكس بالضرورة على الاتحاد والأقاليم الأخرى. في النموذج الألماني مثلًا يتم اعتماد مناهج مدرسية مختلفة من قبل الولايات، وإن كان عليها تلبية معايير موحدة ومُشتركة يُعرِّفُها الاتحاد. وفي النموذج السويسري يتم تبني سياسات لغوية مختلفة بحسب الكانتونات، مع الاعتراف بثلاث لغات رسمية على مستوى الاتحاد (الألمانية والفرنسية والإيطالية) والاعتراف أيضاً بوجود لغات وطنية أخرى، دون أن تكون لغات رسمية للاتحاد. والحالُ شبيهٌ في الهند فيما يتعلق بالاستقلال الخاص للولايات في تحديد سياساتها الثقافية.

لاحقاً، وعبر مجلس الشيوخ الذي يُمثل الأقاليم، تستطيع هذه الجماعات عبر تمثيلها لإقليمها، أو مشاركتها الفعّالة في تمثيله، ضبطَ السياسات الاتحادية بما لا يفرض عليها ضيماً أو ظلماً. الغالبية السياسية الوطنية هي التي تقرُّ في النهاية السياسات، ومُهمة المجالس المُمثِّلة للأقاليم هي منعُ السياسات الجائرة بحق جماعةٍ أو إقليمٍ باسم الأغلبية.

فالمخاطر المُتخيَّلة التي تُرفَق بالدعوة إلى الفيدرالية، بوصفها مأسسة للانقسامات الأهلية والإثنية والمذهبية بما يحفز دعوات التقسيم، ليست واقعاً جدياً في سوريا. الفيدرالية السورية، إن تحققت، فإنها تخدم غايتين أساسيتين، تقييد السلطة وتوزيعها ومنع تراكمها في مكان واحد، والسماحُ لمناطق سورية المختلفة وخاصة الطرفية بالاعتناء بشؤونها، وتبني سياسات تنموية تتناسب وحاجاتها، واستغلال مواردها بأكثر الطرق عدالة، مثلما يسمح لها بتطوير سياساتها الثقافية الخاصة التي تسمح لها بتطوير ثقافة سكانها وتقاليدهم، دون أن تعود هذه الأطراف إلى الخضوع لمركز لا يهتم بها أو يُهملها ولا ينظر إليها إلا حين يحتاجها في ظرف ما.

خاتمة
لقد عرفنا في المشرق نموذجين تاريخيين لتحقُّق الدولة، وهُما ما علينا أيضاً أن نتفاداهما جاهدين. الأول هو نموذج الدولة المركزية والسلطوية كما ظهرت في سوريا والعراق، الدولة التي تَغوَّلت وتَوحَّشت على مجتمعها ونجحت في تحطيمه وإخضاعه فيزيائياً، وليس روحياً وأخلاقياً، عبر قُدرتها على مراكمة السلطة والثروة ومَركزتها مدعومة باداعاءاتها الخاصة بالسيادة التامة، التي صارت في النهاية حقها المطلق في القمع والقتل دون تَدخُّل. النموذج الآخر هو النموذج اللبناني، وهو دولة مركزية بدورها، غير أن الدخول إلى هذه الدولة يتم عبر الطوائف التي تتقاسم الدولة، بما يجعل منها مَسرحاً لصراع هذه الطوائف وتَنازُعها للاستئثار بالدولة، كونها أيضاً مصدراً للسلطة والثروة. في النموذج اللبناني، والعراقي حالياً، لم تكن الدولة، التي تقاسمتها الطوائف، قوية بفضل قدرة الطوائف على منع احتكار السلطة الكاملة من قبل طائفة ما دون غيرها، لكن هذا جعل الدولة ساحة حرب دائمة، وبالتالي ضعيفة وغير قادرة على ضبط نزاعات الطوائف نفسها. هكذا تجدُ الدولة نفسها دوماً في حالة حرب أهلية، حارّة أو باردة. الحرب الأهلية التي تُميز هذا النموذج تعودُ في جزء كبير منها إلى الطبيعة الضمنية للدولة نفسها ومَركزة السلطة فيها، ذلك أن من يفوز بالدولة يصبح قادراً على سحق أعدائه والظفر بقدر هائل من مصادر القوة.

يبدو الخيار الفيدرالي نموذجاً يسمح لنا مبدئياً بتفادي النموذجين؛ النموذج المُفرط في مركزيته وسلطويته كما في السورية-العراقية ونموذج الدولة الهشة كما في الحالة اللبنانية-العراقية، وذلك عبر توزيع السلطة ومصادر الثروة والقوة المتاحة لها أفقياً وعامودياً، بما يمنع مَركَزة قدر كبير من السلطة والقوة في مكان واحد يصبح الاستيلاء عليه غاية أي فريق من أجل الظفر بكل الموارد وسحق خصومه، وهو ما جعل نطاقَ الدولة ينوس بين السلطوية أو الحرب الأهلية كما في النموذجين أمامنا.

إن تقييد وتقليص وتوزيع سلطات الدولة، منذ البداية، يسمح لنا بتفادي أن تصبح الدولة أقوى بكثير من مجتمعها وقِواه، وهذا هو رهان الفيدرالية، أن لا تتمتع الدولة، واقعياً أو إمكاناً، بمصادر كثيرة من القوة التي تتجاوز قُدرَة مجتمعها على مواجهتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
موريس عايق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى