قراءة في المشهد السوري ومحيطه الإقليمي

حركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا
ماذا يجري في الشمال السوري:
بتاريخ الحادي عشر من شهر حزيران الجاري تقدم رتل من العربات الروسية المصفحة نحو معبر أبو الزندين غربي مدينة الباب وعلى متنها مجموعة من الضباط الروس، في محاولة للعبور نحو مدينة الباب الخاضعة للحكومة السورية المؤقتة منذ عام 2016، دون أن يتم الإفصاح عن أهداف الزيارة واسبابها. وقد جوبه الرتل العسكري الروسي برفض شعبي من قبل أهالي وسكان مدينة الباب، وقاموا بإغلاق الطرق بالحجارة والاطارات المشتعلة. وانتهى بهم المطاف بعقد اجتماع مع مجموعة من الضباط الأتراك في نفس المعبر. وتعتبر هذه المحاولة البرية الوحيدة لدخول الروس الى مدينة الباب منذ عام 2016، في حين دخلوا المدينة جواً مرتين متتالين: الأولى عام 2017 والثانية عام 2021، واجتمعوا حينها مع الأتراك في موقعة جبل الشيخ عقيل المطلة على مدينة الباب من الجانب الغربي. أما عن اسباب ودوافع الزيارة فقد صرح الجانب الروسي على أن ذلك جاء في سياق مرافقة وفد تابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى إجراء جولة على طريق م4 الذي يفصل مناطق النظام عن مناطق المعارضة، على غرار ما حصل في إدلب عام 2020، وسط تأكيدات محلية تشير إلى عدم وجود أي وفد قادم من جانب الأمم المتحدة، فيما أشارت بعض الجهات المحلية إلى أن أهداف الزيارة كانت تنحصر في سياق محاولة تقديم مياه الشرب إلى مدينة الباب مقابل تامين الطاقة الكهربائية لمدينة حلب. وحسب المصادر المحلية فإن اجتماعاً مشابهاً بين الروس والأتراك قد حصل في معبر تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة بعد ذلك بأيام. وقد جوبه الاجتماع برفض من قبل بعض فصائل ما يسمى بالجيش الوطني، والذي انتهى باعتقال مجموعة من عناصر وقادة بعض الفصائل، كما حصل في منطقة الباب، دون أن يشار إلى مصير المعتقلين حتى الآن. وحسب الأنباء الواردة فقد تم افتتاح المعبر بشكل تجريبي ليتم عبره نقل السلع والبضائع من وإلى مناطق النظام في حلب في المرحلة الأولى، ومن ثم السماح لعبور المدنيين عبر المعبر، ويشار الى اجتماع مماثل حصل في معبر حمام في عفرين دون ان يتم الاشارة الى ما دار فيها من نقاش.
الخلفيات السياسية للتحرك الروسي في الشمال السوري:
ثمة علاقة عكسية بين موقف ودور كل من إيران وتركيا في الملف السوري، وذلك فيما يخص جانب التنسيق الاستخباراتي واللوجستي مع الروس على الأرض السورية، وذلك على طرفي خطوط الهدنة في الشمالين الغربي والشرقي من سوريا، فبمقدار تراجع الدور الإيراني يتنامى على حسابه الموقف التركي. ومن الملاحظ أن الجهود الدولية والعربية منصبة حالياً في اتجاه إنهاء الدور الإيراني في الملف السوري، سيما بعد عملية حماس ضد اسرائيل في 7 أكتوبر من العام الماضي. وقد اشارت بعض التسريبات إلى أن ايران فقدت الثقة بقدرة الميليشيات الموالية لها في تنفيذ مشروعها السياسي في المنطقة العربية، لهذا حاولت أن تستبدل سلوكها العسكري عبر الدعم المطلق للميليشيات الموالية بالسلوك الدبلوماسي والانفتاح على المحيط العربي سعياً منها في قطع الطريق أمام استكمال مشروع تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. من جانبها تحاول الدول العربية تقليص مساحة التضييق على النظام السوري مقابل دفعه باتجاه الضغط على ايران للانسحاب من الملف السوري، وتكللت الخطوة الأولى بإعادة مقعد النظام السوري في جامعة الدول العربية الى جانب دعوة رأس النظام لحضور مؤتمر القمة العربية في البحرين في مايو 2024. وقد جاء زيارة رأس النظام السوري بشار الأسد إلى ايران والالتقاء مع المرشد الأعلى للدولة الإيرانية علي خامنئي في أيار الماضي كمحاولة في هذا السياق. لكن من غير المتوقع أن تتكلل جهود الأسد بالنجاح بسبب تغلغل الوجود الإيراني في العمق السوري إلى جانب تعقيدات ملف الديون الإيرانية المتراكمة على النظام السوري والتي بلغت حسب بعض المصادر الإيرانية سقف ال50 مليار دولار.
ماذا استجد في ملف التنسيق بين روسيا وتركيا؟
منذ حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر 2015 من قبل سلاح الجو التركي وتداعيات الانقلاب الفاشل في تركيا في يوليو 2016 حدث تحول جذري في الموقف التركي، وبدأ شكل التنسيق مع الروس يتنامى على حساب الدور الأمريكي فيما يخص الملف السوري، وكان من نتاج ذلك تسليم مدينة حلب في ديسمبر 2016 إلى النظام السوري مقابل مناطق نفوذ محدودة لتركيا في الشمال السوري. وتكلل ذلك بانضمام تركيا الى محور استانة عام 2017 لتتحول فيما بعد إلى طرف ضامن للحل في سوريا إلى جانب كل من روسيا وإيران.
وبالعودة الى تاريخ العلاقات بين روسيا وتركيا في العقدين الماضيين سنجد أنها لاقت العديد من التطورات اللافتة رغم ما شابها من توترات بين الحين والآخر. وقد زاد دفء العلاقات بينهما خلال الفترة القصيرة الماضية، خصوصاً بعد رفض تركيا الانضمام الى قائمة العقوبات الغربية على روسيا بسبب حربها على اوكرانيا، من وتيرة التبادل التجاري السنوي لتصل الى ما يقارب 62 مليار دولار سنوياً، فيما يسعى الطرفان إلى تخطي سقف ال 100 مليار دولار سنوياً في السنوات القادمة. إلى جانب ذلك يشعر الطرفان الى أن الوجود الأمريكي في سوريا سيقوض مشروع الطرفين على المدى المنظور، لهذا يحاولان مشتركين في الضغط على الولايات المتحدة الامريكية ودفعها للانسحاب من سوريا بسبب انشغالها في انتخابات الرئاسة نهاية هذا العام. ومن الواضح أن روسيا لم تفقد الأمل في السعي لخلق محور روسي تركي سوري واستخدامه في مواجهة المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية الداعم لقوات سوريا الديموقراطية.
لقاء حميميم وإعادة خلط الأوراق:
بعد لقاء وزير الخارجية التركي حقان فيدان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو بيوم تم عقد لقاء عسكري مشترك في العاشر من شهر حزيران الماضي في قاعدة حميميم بريف اللاذقية، وهو الاجتماع الأول من نوعه على الأراضي السورية. وقد ذكرت إحدى الصحف التركية أن وفداً عسكرياً من القوات المسلحة التركية عقد اجتماعاً مع وفد عسكري من النظام السوري، موضحةً ان الاجتماع بحث الأحداث الأخيرة في محافظة ادلب. وتؤكد بعض المصادر المقربة أن هذا اللقاء جاء على خلفية محاولة روسيا من جديد تنشيط ملف التطبيع بين تركيا والنظام السوري بعد اشهر من فشل محاولة مشابهة. ومن الواضح أن ثمة ملفات عديدة شائكة تعترض سبيل أية عملية تطبيع من هذا القبيل، منها تركيز النظام السوري على انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري وفق جدول زمني محدد. فيما تركز تركيا على إنهاء ملف حزب الاتحاد الديموقراطي في شمال و شرق سوريا كضرورة أمنية مرتبطة بالأمن القومي حسب الادعاء التركي، إلى جانب حل ملف اللاجئين السوريين في تركيا. ومن غير المرجح أن تتكلل هذه الجهود بالنجاح، لكن المرجح أن تركيا تحاول عبر هذه التحركات انتزاع ورقة ضغط جديدة كي يستخدمها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في اجتماع الناتو في واشنطن في التاسع من شهر تموز المقبل.
في ٣٠ حزيران ٢٠٢٤
المكتب التنفيذي