قصة الاِقتطاع وعواقب التأليب

ماجد ع محمد
في احتجاج مزارعو القمح في مدينة الدرباسية التابعة لمنطقة رأس العين بريف محافظة الحسكة على التسعيرة الأولية لشراء القمح التي حددتها إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي هناك، قال أحد المتظاهرين الكرد إنه عن قصد ارتدى الهندام العربي وشارك في المظاهرة، وعندما سئل لماذا تلبس هذا الزي؟ قال: “أنا لبست هندام العرب لكي يتعاطفوا معنا، باعتبار أن قائد قوات سورية الديمقراطية(قسد) مظلوم عبدي يحب العرب”، وهذا الكلام لم يصدر عن رجل سياسي، ولا صدر عن موالي لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD ولا صدر عن شخص راضي عن ممارسات تلك الإدارة، إنما صدر عن مواطن لا شأن له بالسياسة، عن مواطنٍ غاضب من قرارات الإدارة الذاتية، مواطن جاء ليعبر عن رفضه للتسعيرة التي حددتها تلك السلطة.
كما يُفهم من كلام الرجل بأن حزب الاتحاد الديمقراطي يُحابي العرب وباقي المكونات ويعمل على إرضائهم على حساب المكون الكردي، علماً أن الإدارة محسوبة على الكرد! كما يُستشف من كلام الرجل بأن اسطوانة الانفصال التي تعيد تشغيلها كل فترة بعض الوسائل الإعلامية تستدعي التهكم، لأن الذي يكون لديه رغبة الانفصال سيعمل جاهداً على رفع شأن ملته ويمارس العنصرية بحق المكونات الأخرى، بينما هذان الشرطان غير متوفران في حزب الاتحاد الديمقراطي بما أن المكون الكردي هناك يشتكي أكثر من باقي المكونات لشعور أبنائه بأن الإدارة الذاتية تعمل جاهدةً على إرضاء كل المكونات على حساب الكرد، كحال رجلٍ يريد أن يُظهر للناس بأنه كريم، ولكن لا يأتي كرمه إلاَّ بعد حرمان أفراد اُسرته من مخصصات الطعام ليقدمها للجيران والغرباء حتى يُبين أمامهم بأنه جواد، وهذا السلوك ليس بغريب عن حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، باعتبار أن أبناء العشائر العربية ممن زرعهم النظام البعثي في منطقة عفرين من أجل تعريب المنطقة كانوا مدللين جداً لدى حزب الاتحاد الديمقراطي طوال فترة سلطته في منطقة عفرين.
وبما أن توجه أي حزب يبدو جلياً من خلال ما يورد في أدبياته السياسية، ففي هذا الجانب يشير الحزب المذكور وفق برنامجه السياسي ونظامه الداخلي الذي صادق عليه في مؤتمره التاسع المنعقد بتاريخ 18-19-20/6/2022 خاصة في ما يتعلق بالكرد إلى أنه يعمل على حل القضية الكردية لروجافاي كردستان ضمن سوريا حلاً ديمقراطياً عادلاً في إطار دستور توافقي ديمقراطي؛ فأين النوايا الانفصالية في خطاب التنظيم؟ بينما جاء في تعريف الحزب وفق نظامه الداخلي أنه “حزب سياسيّ مجتمعي، يعتمد على قوة الشعب ويتّخذ من نظرية المجتمع الأخلاقي السياسي والأيكولوجي وحرية المرأة منهجاً لعمله النضالي، ويعتمد مبدأ التمثيل المتساوي والرئاسة المشتركة أساساً له، ويتخذ مبادئ الأمة الديمقراطية أساساً له” إذ أننا من خلال التعريف به لا نلمس حتى نزعة الانتماء القومي للحزب المذكور، بينما الانفصال القومي لا يكون بدون نزعة قومية في أي مكانٍ كان؛ هذا إذا ما تجنبنا ذكر موقف الحزب وقادته من النظام السوري ومدى العون الذي قدمه للنظام تنظيم حزب العمال الكردستاني PKK الذي يدير ويتحكم بقرار حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث قال باهوز آردال أحد أبرز قادة ذلك التنظيم في هذا الصدد: “إنه لولا المساعدة التي قدمها PKK للنظام السوري لسقط نظام بشار الأسد”، فكيف لمن يُحافظ على النظام ويُقدِّم له المساعدة لكي يبقى منتصباً بأن ينفصل عنه؟
ولا شك في أننا هاهنا لسنا في وارد الدفاع عن هذا الحزب الإشكالي والهلامي في كُنهه، هذا الحزب الذي مللتُ شخصياً كصحفي من نقده بعد أن تناولته في حوالي خمسين مقالة، وذلك باعتبار أن لديه جيش من الأنصار والموالين والمؤدلجين المدافعين عنه، ولا يعنيني أمره كحزب البَتَّةَ، إنما ما يعنيني هو أن تأجيج الشارع العربي من خلال بعبع الانفصال ربما يؤثر على الكرد أجمعين، ومشكلة التحريض أنه قد لا يبقى في حدود استهداف حزب بعينه أو ميليشيا لوحدها، لأن الشارع المحتقن عندما ينفجر بناءً على التعبئة الإعلامية بوجه ملة من الملل، لن يستثني في هجماته المحتملة أحد من تلك الملة، إنما السيل الجارف سيشمل الملة بأكملها، ومن هذا المنطلق جاءت هذه الوقفة الكتابية.
وحيال الموضوع ذاته فمن التساؤلات التي يطرحها الشارع بخصوص هذه القضية هو يا ترى هل قرار تحديد سعر شراء القمح أقل من العام الماضي أي 330 دولاراً للطن الواحد، بينما كان العام الفائت كان 420 دولاراً، جاء عقب مخاوف النظام السوري من مخاطر ارتفاع أسعار القمح عالمياً وصعوبات النقل والتجارة في ظل العقوبات الدولية والاضطرابات في المنطقة، حيث كانت حكومة النظام قد عقدت اجتماعاً مصغراً مطلع شهر فبراير (شباط) الماضي لبحث كيفية إدارة سلسلة توريد وتأمين محصول القمح؟ وإذا كان هذا الاحتمال وارداً فهذا يعني أن هناك تناغم وربما مبادرة في إطار التعاون الاقتصادي بين الإدارة الذاتية والنظام، وأنه من باب حسن النية تجاه النظام قررت الإدارة الذاتية تحديد السعر الملائم لدمشق؟ وهذا يعني بأن حكاية الانفصال مجرد مادة إعلامية مهمتها تسخين الأجواء وقرع طبول الحرب، أما إذا كان موضوع تسعيرة القمح احتكاري أو تنافسي من قبل الحزب المذكور فسيكون الصراع وقتها اقتصادي صرف ومتعلق بذلك المحصول الأساسي والذي يجري التنافس على شرائه بين الإدارة الذاتية ودمشق.
أما التساؤل الآخر فمتعلق بسر التزامن كل مرة بين أزمات الداخل وتهديدات الخارج، وفي هذا الصدد ثمة من يرى من النشطاء السياسيين بأن من يُسمون بكوادر قنديل الذين يديرون المؤسسات من الخلف، ويصدرون القرارات التي تنصدم كل مرة مع مصالح الناس على أرض الواقع هم إما أناس جهلة ولكنهم بفضل خبرتهم العسكرية الطويلة أو بفضل الولاء الإيديولوجي صاروا في مواقع تصدر قرارات في شؤونٍ لا علم لهم بها، كما هو حال قادة الكثير من الفصائل في الشمال السوري الذين جيء بهم من بين العوام ووُضعوا في مواقع القرار بعد أن تم إبعاد الضباط الحقيقيين؛ أو أن الذي سعَّر القمح يُنفذ أجندات خارجية ومطلوب منه إحداث الخلل وتوسيع الشرخ بين المواطن والسلطة الحاكمة هناك، متسائلين عن السر في أنه كُلَّما صدر في الداخل قرار يخص لقمة المواطن أو يتعلق بكرامة الناس ويزيد من نقمتهم خرج كبار المسؤولين في الدولة المجاورة بتصريحات الوعيد والتهديد؟ قائلين ألا يعني هذا التناغم والتزامن الذي يتكرر منذ سنوات بأن مفتعل الغليان في الداخل أي داخل وإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي والمهدِّد من خلف الحدود هو من نفس الجهة؟
ختاماً، فبخصوص التصريح القائل: “لن نسمح أبداً للتنظيم الانفصالي بإنشاء دويلة إرهابية في الجانب الآخر من حدودنا” فالسوريون الذين تهيّجهم البيانات، وتؤججهم الشعارات، وتحرضهم الخطابات، على الأغلب سيأخذون هذا الكلام على محمل الجّد، وسيعتبرونه ربما من الحقائق اللامشكوك بها باعتبار أنها صادرة عن أعلى الهرم السياسي في البلد، بينما من لديه ذاكرة جيدة وقادر على ربط الأحداث الراهنة بالماضية فحين يقرأ تصريح الانفصال سيتذكر المواقف المماثلة في الأزمات لنفس الجهة السياسية التي أصدرت البيان، كما سيتذكر حكاية النظام السوري الذي ولسنوات طويلة كان إبان اعتقال أي سياسي كردي تتهمه الأجهزة الأمنية على الفور بأنه يعمل مع تنظيماتٍ تحث على اقتطاع قطعة من سوريا وإلصاقها بدولة مجاورة، بينما الغرض من حكاية الاقتطاع الحالية من قبل الدولة الجارة نفسها التي كانت تلك القطعة إن اقتُطعت حينها من سورية ستلتصق بها وذلك من خلال معرفة وقت صدرور حكاية الاقتطاع/الانفصال ومناسبتها ومراميها فيعرف المتابع وقتها بأن هذا الكلام يأتي فقط في إطار تأليب العرب ضد الملة المحسوب عليها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD.
ولا يُخفى على أي بصير بأن هذا الخطاب التأجيجي إذا ما نجح في مسعاه على الأرض وحرَّك الحشود البشرية المشتعلة غضباً لن يكون بمقدور الخطاب أو حتى مَن أطلقه إفهام الشارع المهيَّج بأن التصريح كان مخصَّصاً ومتعلَّقاً بفئة معيّنة من الناس وفي مكانٍ معيّن، إنما سيعمل الخطاب التحريضي على تحشيد العرب ضد الكرد بوجه عام، وهذا ما لا يُحمد عقباه، كما أن الناس في الداخل السوري بعد أن طالتهم ألسنة المعارك لسنوات، وبعد أن أنهكهم الفقر والجوع ليسوا بحاجةٍ الآن إلى اشتعالاتٍ جديدة في ما تبقى لديهم من سنابل الأمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
ماجد ع محمد