الإعلان الدستوري – دستور مقنّع يعيد عقارب الاستبداد إلى الوراء

المحامي محمد عباس
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة من التحولات السياسية المعقدة، ترافقت مع فراغ دستوري وقانوني استمر لأكثر من ثلاثة أشهر. وفي هذا السياق، أصدر رئيس السلطة في سوريا، أحمد الشرع، ما سُمي بـالإعلان الدستوري، الذي كان من المفترض أن يشكل إطارًا قانونيًا للمرحلة الانتقالية. إلا أن هذا الإعلان أثار جدلًا واسعًا حول مدى شرعيته ومدى استجابته للمطالب الشعبية في تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، وسط مخاوف من كونه أداة لإعادة إنتاج نظام رئاسي ذي طابع استبدادي يتجاهل التعددية السياسية والثقافية في البلاد. وتتجلى هذه الإشكاليات في عدد من القضايا المحورية، أبرزها الأساس القانوني للإعلان، طبيعة النظام السياسي الذي يرسيه، تحديد اللغة الرسمية، توزيع السلطات، وضمان حقوق المكونات الثقافية
أولاً: غياب المشروعية القانونية والدستورية للإعلان
الإعلان الدستوري الصادر عن أحمد الشرح يعاني من مشكلة جوهرية تتعلق بالمشروعية القانونية والدستورية، حيث إنه لم يستند إلى أي عملية دستورية أو تشريعية معترف بها. فإصدار إعلان دستوري يتطلب أساسًا شرعيًا، كأن يكون صادرًا عن سلطة منتخبة ديمقراطيًا أو في إطار اتفاق وطني بين الأطراف الفاعلة، وهو ما لم يتوفر في هذه المسودة. إن تجاوز جميع الاتفاقيات السابقة، كما ورد في نص السؤال، يجعل هذا الإعلان عرضة للطعن بعدم الشرعية، خاصة إذا لم يحظَ بقبول القوى السياسية والشعبية الفاعلة
ثانياً: اسم الجمهورية: تهميش المكونات السورية
على صعيد آخر، اسم “الجمهورية العربية السورية” في الإعلان الدستوري يعكس استمرار الهيمنة الثقافية والسياسية العربية، مما يعمق تهميش المكونات الأخرى التي لطالما سعت إلى الاعتراف بها في الدستور. فعلى الرغم من أن سوريا تضم مكونات قومية وعرقية متنوعة مثل الكرد والآشوريين والتركمان وغيرهم، فإن استخدام صفة “العربية” في اسم الجمهورية يعزز من إقصاء هذه المكونات ويقلل من مشاركتها في الحياة السياسية.
إن الاحتفاظ باسم “الجمهورية العربية السورية” في هذا السياق يعكس تفكيرًا سلطويًا لا يعترف بحقوق الشعب السوري بمكوناته كافة في تحديد هويتهم السياسية والاعتراف بتنوعهم العرقي. من خلال هذه الممارسة، يُغلق الباب أمام التحولات التي قد تؤدي إلى إقامة دولة تعددية تعترف بجميع المكونات القومية والعرقية في سوريا.
ثالثاً: أحادية اللغة الرسمية: إقصاء للتنوع الثقافي
أحد أبرز الانتهاكات على الإعلان الدستوري هو إحادية اللغة الرسمية التي تقتصر على اللغة العربية، في حين أن سوريا تتمتع بتنوع ثقافي ولغوي عميق يشمل العديد من المكونات القومية والإثنية، أهمها الكردية التي تعتبر اللغة الأم لأكثر من ١٥٪ من الشعب السوري ويعتبر الشعب الكردي ثاني أكبر مكون في سوريا. في الوقت الذي تعترف معظم الدساتير الديمقراطية بحقوق المكونات الثقافية واللغوية من خلال منحهم حقوقًا متساوية في استخدام لغاتهم، يغفل الإعلان الدستوري هذا الحق الأساسي للشعب الكردي والمكونات الأخرى، مما يعكس سياسة التهميش التي تتبعها السلطة تجاه هذه المكونات.
إن إقصاء اللغة الكردية وكل لغات المكونات الأخرى يشكل انتهاكًا صريحًا لحقوق الإنسان، كما يؤدي إلى تعزيز النزعة القومية العربية على حساب التنوع الثقافي في البلاد. وبالتالي، يترسخ في هذا السياق شكل من القمع الثقافي الذي يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بعيدًا عن كل ما يمكن أن يساهم في بناء دولة مدنية حديثة تقوم على التنوع والشراكة بين جميع مكوناتها.
رابعاً: سلطات الرئيس: تعزيز الاستبداد وتحجيم دور المؤسسات
على الرغم من أن الإعلان الدستوري كان من المفترض أن يمثل خطوة نحو الانتقال إلى دولة ديمقراطية، إلا أن توسيع سلطات رئيس الجمهورية في هذا الإعلان يُظهر عكس ذلك تمامًا. فقد تم منح الرئيس سلطات واسعة، تصل إلى التدخل في شؤون جميع مؤسسات الدولة بما في ذلك السلطات التشريعية والتنفيذية، مما يعزز دور النظام الرئاسي المركزي ويجعل من الرئيس شخصًا فوق القانون.
وهو ما يتعارض تمامًا مع المبادئ الديمقراطية التي تنص على فصل السلطات وتوزيعها لضمان توازنها ومنع الاستبداد. في الواقع، يُعتبر هذا التوجه عودة إلى الوراء في ظل غياب أية ضمانات لتقليص سلطات الرئيس. فبإمكان الرئيس تعيين الوزراء، إقالتهم، وتحديد السياسات العامة للدولة بشكل فردي، مما يترك البلاد تحت وطأة حكومة أحادية تشهد مركزية تامة في السلطة، ويقلل من فرص التعددية السياسية والمشاركة الشعبية في صناعة القرار.
خامساً: الطابع الرئاسي: إحياء النظام الاستبدادي
إحدى السمات البارزة في الإعلان الدستوري هي الهيكلية الرئاسية للدولة، التي تعكس عودة إلى الوراء إلى نظام حكم مركزي مستبد. النظام الرئاسي الذي ينص عليه الإعلان يُعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية، مع تهميش أدوار المؤسسات الأخرى مثل البرلمان والقضاء. هذا التركيز في السلطة يعيد إحياء ممارسات الحكم الاستبدادي التي كانت سائدة إبان حكم البعث، مما يقوض التحول الحقيقي ويقلل من فرص أي تحول حقيقي نحو الديمقراطية والتعددية.
إن إعادة بناء نظام رئاسي كهذا يحد من أي تقدم في تحقيق مطالب الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. كما أن هذا الشكل من الحكم يعزز من استمرار النظام السياسي القائم ويجعل من الصعب تفكيك هذا المركزية للسلطة في المستقبل، مما يتعارض مع تطلعات الشعب السوري و المبادئ الديمقراطية الأساسية التي تطالب بالتداول السلمي للسلطة.
سادساً: الاطالة و التفاصيل الدقيقة: هي أقرب إلى ملامح دستور دائم في إعلان مؤقت
أحد النقاط التي تثير القلق في الإعلان الدستوري هي كثرة مواده وأطالتها وذكر التفاصيل الدقيقة والمبالغ فيها، والتي تُظهر أن هذا الإعلان أقرب إلى كونه دستورًا دائمًا منه إلى مجرد وثيقة مؤقتة للمرحلة الانتقالية. الإعلانات الدستورية عادةً ما تكون مختصرة وتركز على المبادئ الأساسية التي تحدد هيكلية الحكومة وحقوق المواطن بشكل عام. لكن الإعلان الذي أُصدر لا يقتصر على تحديد شكل الدولة وتوزيع السلطات، بل يدخل في تفاصيل دقيقة تشمل تنظيم الانتخابات، تحديد صلاحيات الرئيس، دور المؤسسات القضائية والتشريعية، وشكل الدولة ونظامها وكل التفاصيل الأخرى.
هذه التفاصيل قد تكون ضرورية في دستور دائم، لكنها غير ملائمة في وثيقة مؤقتة تهدف فقط لتنظيم المرحلة الانتقالية. هذا قد يشير إلى نية لا تعكس مرونة المرحلة الانتقالية، بل تشير إلى تصميم على تثبيت نظام سياسي محدد من خلال إقرار هذه البنود التفصيلية، مما يُفقد الإعلان الطابع المؤقت ويجعله وثيقة تُعزز من استمرار النظام القائم.
بناءً على كل هذا، يتضح أن الإعلان الدستوري السوري يُمثل خطوة نحو تعزيز النظام الرئاسي الاستبدادي الذي يهمل تمامًا تنوع المجتمع السوري. من خلال منح سلطات واسعة للرئيس، فرض هيمنة اللغة العربية، وتهميش المكونات الثقافية الأخرى، إضافة إلى غياب التوزيع الفعلي للسلطة بين المؤسسات، يتضح أن هذا الإعلان لا يمثل أداة لإحداث تغيير ديمقراطي حقيقي، بل يعكس محاولة لتثبيت نظام مركزي سلطوي يستبعد التعددية السياسية والثقافية. إن إصرار الإعلان على تكريس هذه المفاهيم يعكس تقاعسًا عن الاستجابة لمطالب الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية تعددية، ويؤكد أن التغيير المنشود بعيد المنال ما لم تتم معالجة هذه القضايا بشكل جاد من خلال عملية دستورية شاملة تشرك جميع السوريين بمختلف مكوناتهم الثقافية والسياسية

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس