قراءة في المشهد السياسي لسوريا وجوارها الإقليمي

قبل أيام إنتهت الجولة الـ 21 من محادثات أستانا، هذا المسار الإشكالي الذي بدأ أولى جولاته في كانون الثاني عام 2017 ، وانتهت الجولة الأخيرة في ظل أجواء التوتر التي تشهدها المنطقة نتيجة استمرار الحرب في غزة ووجود مخاوف جدية من نشوب حرب اقليمية واسعة ومدمرة نتيجة تطاير شظايا حرب غزة إلى المحيط الاقليمي في لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن، بالإضافة الى ما يجري من صراع على ممرات الملاحة الدولية في البحر الأحمر بين الحوثيين ودول الناتو، ومحاولات ضامني مسار أستانا للحفاظ على التنسيق فيما بينهم حول ما يتعلق بسوريا، ومحاولة إبعادها ما يمكن عن تبعات تلك الحرب فيما إذا وقعت، ومحاولة كل طرف من الأطراف الحفاظ على مصالحه من خلال بعض الأطراف السورية الفاعلة، وضرورة إحضارهم إلى العاصمة الكازاخية ( كأداة ) لشرعنة التدخل والحفاظ على المكتسبات على حساب المسار الأممي للعملية السياسية التي انطلقت من جنيف 1 عام 2012 بإشراف الأمم المتحدة رسمياً .
ومن الملاحظ أن جولة أستانا الأخيرة كسابقاتها لم تستحوذ على أي اختراق من أي جانب من جوانب الأزمة السورية لجهة الدفع باتجاه إيجاد حل سياسي، حيث بقي الملف السوري في بازار المقايضات بين اللاعبين الأساسيين، أما الحضور السوري الموالي والمعارض فقد كان كالعادة حضوراً صورياً ومتواضعاً، و كانوا مغيبين عن صياغة قراراتها وتفاعلاتها، نتيجة فقدانهم للقرار الوطني المستقل وسيطرة اللاعبين على حساب الأمم المتحدة، وكان سقف طموحات الوفد المعارض في هذه الجولة هو محاولة الحفاظ على الوضع كما هو!. اما وفد النظام فقد كان واضحاً في شروطه حيث أكد على جملة من المسائل التي اعتبرها سيادية وغير قابلة للنقاش منها : علم الدولة، ومقام رئاسة الدولة، وأن مناقشة الدستور يجب تكون في دمشق، ورفض مناقشة قضية المفقودين والمعتقلين بالقول بأن كافة الأطراف ارتكبت جرائم، وكان هناك شبه إقرار من قبل الضامنين ( ولو بشكل غير معلن ) بأن النظام انتصر ويجب أن تكون هناك تعديلات دستورية محدودة، والحفاظ على خفض التصعيد، وهددت روسيا بأن كل من يرفض شروط النظام سيكون عرضة للقصف الروسي ( المقصود المعارضة المسلحة )، كما طالبت بأن تكون الجولة القادمة من هذا المسار في دمشق، وكانت مطالب المعارضة خجولة حيث اقتصرت على العودة الآمنة للاجئين !. مما يعني بأن الأزمة ستبقى في حقول التأجيل، والتقسيم الميداني سيبقى قائماً وكذلك الصراع سيستمر على حساب الحلول السياسية الواقعية. وأكدت الجولة الأخيرة من جديد بأن المعارضة السياسية الرسمية فاقدة تماماً لقرارها ولاتمتلك أي مشروع وطني تغييري شامل وواقعي .
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن انسحاب أمريكي وشيك من شمال شرق سوريا، مع تأكيدنا الشديد على أن قرار من هذا القبيل يتعلق بمدى خدمته لإستراتيجية المصالح الأمريكية ليس في سوريا فحسب، بل في مجمل منطقة الشرق الأوسط سيما بعد التواجد الروسي المكثف في سوريا، لهذا نعتقد أن هذا الموضوع لا يتعدى في جوهرها سقف التكهنات، وما يجري في الميدان في الوقع هو تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، اما بالنسبة لمصير الملف السوري فلا يوجد أية مؤشرات ولو على مستوى الرؤى تشير الى حلحلة الوضع، وأن الواقع السائد لا يختلف عن الأجواء التي كانت سائدة منذ نهاية 2019 ، مما يعني أن السياسة الأمريكية لن تتغير في جوهرها خلال العام الجاري وستبقى في إطار المحددات الثلاث التي أعلنت عنها منذ التاريخ المذكور والتي تتلخص في تأمين تدفق المساعدات الإغاثية إلى الداخل السوري، ورفع مستوى مشاريع التعافي المبكر للحفاظ على تجميد المشهد، ومحاربة داعش الإرهابي ومنع ظهوره مجدداً من خلال تجفيف منابعه ومصادر تمويله .
من جانب آخر فإن كل ما يجري من حديث عن احتمال استئناف اللجنة الدستورية لعملها من خلال عقد جولة جديدة في جنيف، فإننا نستبعد حدوث اية اختراقات جوهرية حتى إذا عقدت، وكذلك الأمر بالنسبة لما يجري من حديث عن وجود رؤية سياسية في إطار حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ويمكن تفسيره على انه نوع من تهدئة النفوس في ظل استمرارية الحرب، والإيحاء بوجود حلول بالرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك وليست هناك مشاريع واضحة لحلول سياسية واقعية لقضايا شعوب المنطقة . وماهو معتاد في السياسة الأمريكية أن الحزب الحاكم يحاول في العام الانتخابي وقبل موعد الانتخابات القيام بصناعة حدث إعلامي من خلال تنفيذ عملية أو معركة محدودة ضد قيادات معروفة لمنظمات مصنفة على لوائح الإرهاب لكسب الرأي العام واستثمار الحدث في العملية الانتخابية . وواضح أن ما يجري من ضربات أمريكية ضد أذرع إيران في اليمن وكذلك في العراق وعلى الحدود الدولية بين العراق وسوريا وكذلك ضد قيادات تنظيم داعش الإرهابي تندرج في هذا الإطار، و حسب المعطيات لن تكون هناك تغييرات جذرية في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة خلال العام الجاري على الأقل . وكل مايجري حتى الآن تأتي في إطار الضغط لإجبار إيران للتوقيع على اتفاق جديد بخصوص برنامجها النووي وكذلك الصواريخ البالستية وبشروط جديدة كنوع من إنجاز للإدارة الديمقراطية لضمان الفوز بولاية جديدة . ومن الأهمية بمكان التذكير بأن مناخات الشرق الأوسط اليوم تشبه إلى حدٍ بعيد تلك التي كانت سائدة خلال حقبة الستينات والسبعينات من القرن العشرين وبالتالي قد تشهد المنطقة إعادة تغيير منظومات الحكم القائمة ودورها . وما يجري اليوم من صراعات وصدامات عسكرية بين الغرب بقيادة أمريكا من جهة وإيران وأذرعها من جهة ثانية لا تتجاوز مساحة التفاهمات والمصالح الاستراتيجية للجهتين . بمعنى آخر أن الترتيبات الجديدة فيما إذا حصلت سوف لن تختلف عن تلك الأطراف الحاكمة لجهة مصالح شعوب المنطقة وقضاياها. لأن الصراع والعلاقات بين الدول العظمى تحكمها مصالح حيوية كبرى ، وبالتالي عندما تخسر قوة عظمى منطقة نفوذ في منطقة معينة من العالم فإنها تعوض تلك الخسارة في مكان آخر والفائز الخصم يدرك ضرورة ذلك. نتذكر كيف أن أمريكا قامت بتعويض خسارتها في فيتنام وذلك في الشرق الأوسط في حرب الأيام الستة في حزيران 1967 من خلال الصراع العربي – الاسرائيلي والترتيبات التي حصلت بعد ذلك في بنية منظومات الحكم التي لاتزال تحكم المنطقة . وروسيا المشغولة بالحرب مع أوكرانيا غير بعيدة عن كل مايجري في المنطقة . ومنذ ماقبل الحرب في غزة وخلالها تقوم أمريكا بتعزيز حضورها في المنطقة ، وبعد تعرض قواعدها للقصف من جانب بعض الميليشيات الولائية لإيران ، وكذلك ما تتعرض لها السفن التجارية من عمليات قصف وقرصنة من جانب ميليشيا الحوثي الموالية لإيران لم تصل بعد إلى درجة نشوب حرب ” مباشرة ” بين إيران وأمريكا . وبالتالي الأزمة السورية لن تشهد انعطافة كبيرة أو دفعاً نحو عملية سياسية حقيقية بخطوات ملموسة في الوقت الحاضر ، وكل ما يجري من لقاءات بين المتدخلين في بلدنا تأتي في إطار الحفاظ على مصالح تلك الأطراف من خلال ترسيخ الانقسام الميداني وتعزيز مناطق النفوذ على حساب الحل السياسي الوطني . في هذه الأجواء سوف تستمر عمليات القصف في مختلف المناطق ( من قبل النظام والروس على شمال غرب سوريا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة السورية ، وكذلك من قبل الجيش التركي على شمال شرق سوريا في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ، والاسرائيلي والأمريكي على كامل مناطق سيطرة النظام نتيجة وجود أذرع إيران وميليشياتها الولائية .
وبدون شك فإن الحروب بشكل عام هي تعبير عن فشل السياسيين في مسار معين وشكل ما وبالتالي الانتقال إلى شكل آخر، وما جرى ويجري في غزة وسوريا بمختلف مناطقها وكذلك مساحات واسعة من العراق واليمن وأوكرانيا ….إلخ ، هي أدلة قاطعة على فشل الأمم المتحدة بمختلف مؤسساتها وهيئاتها على الالتزام بالضوابط والوثائق الصادرة عنها لجهة حق الشعوب في تقرير مصيرها، والقضاء على الفقر والأمية، ومحاصرة الدكتاتوريات ، والوقوف إلى جانب المظلومين ، وتحجيم الهوة بين الأغنياء والفقراء ووضع خطط وحلول علمية لظاهرة الهجرة . باختصار يمكننا القول طالما أن التدخل في سوريا مازال مستمراً، والصراع عليها قائماً، والتداخل بين ملفها والملفات الأخرى موجوداً، والتوافق بين متصدري المشهد السياسي – موالاة و معارضة – على رؤية وطنية تشاركية إنقاذية غائباً فإن أي حديث عن إمكانية إنتاج حل سياسي حقيقي للأزمة في الوقت الحاضر ليس أمراً صعباً فحسب، بل مستحيلاً، ومايجري بين المتدخلين في سوريا حتى اللحظة هو عبارة عن عملية الحفاظ على التفاهمات البينية لترسيخ الانقسام الميداني وتعزيز مساحات النفوذ .
في الـ 5 من شباط 2024
المكتب التنفيذي
لـحركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا