بيانات و توضيحات

الوضع الراهن في سوريا وجوارها الإقليمي تقدير موقف


يبدو أن منطقة الشرق الأوسط قد تشهد صيفاً ساخناً ينذر بتحولات جوهرية. وقد مهّدت الأحداث التي شهدتها المنطقة والعالم منذ انهيار منظومة حلف وارسو لهذه التطورات التي تمخّضت عن تغيير جذري للخارطة السياسية لقارات العالم القديم فانهارت دول وسقطت أنظمة وتشكلت دول جديدة وخيضت حروب في مناطق عدة شاركت فيها أحلاف دولية واسعة.

وما أن حاولت ما تبقّى من أنظمة التأقلم مع المتغيرات الحاصلة بفعل خارجي حتى بدأ التغيير مرحلة جديدة باستهداف تلك الأنظمة من الداخل، فكان انطلاق احتجاجات شعبية كبيرة تحوّلت إلى انتفاضات أسقطت أنظمة وحكاماً في بعض البلدان (كتونس ومصر) وتسببت بمقتل حكام وتحويل البلدان التي كانوا يحكمونها إلى ساحات حروب داخلية (كما في ليبيا واليمن). أما الحالة الفريدة فمثّلها النظام السوري الذي عاند شعبه وواجه انتفاضته السلمية بالسلاح، ما أدى إلى دفعها إلى التسلح وتدخّل جهات أخرى خارجية وسطوة قوى متطرفة على الساحة السورية التي جذبت كل ما هَبّ ودَبّ من ميليشيات متطرفة وإرهابية وقوى دولية، منها بطلب من النظام ومنها بذريعة محاربة الإرهاب، ليتفتت البلد إلى مناطق نفوذ منفصلة عملياً ومتجهة إلى المزيد من الترسّخ وفرض الأمر الواقع.

ولم تسلم المنطقة من آثار الحدث السوري الذي شكّلت تداعياته الإقليمية جزءاً هاماً من أسباب الاضطرابات والمتغيرات التي شهدها الجوار الإقليمي لسوريا. فتركيا التي استلم حزب العدالة والتنمية الحكم فيها منذ عام 2002 وبأغلبية ساحقة، بدأت تشهد تحولاً واضحاً نتيجة تراجع شعبية الحزب الحاكم بدءاً من 2011 ( حيث انطلقت الاحتجاجات الشعبية في سوريا )،حتى جاءت الانتخابات البلدية الأخيرة في 31 آذار الفائت بضربة قاصمة للحزب الحاكم الذي خسر تلك الانتخابات والتي ستكون لنتائجها تأثير كبير على الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.

ولبنان الذي يشهد توترات وأزمات بنيوية منذ عقود، شكلت الأزمة السورية عبئاً إضافياً عليه. فمن الناحية السياسية والأمنية لم تسلم الساحة اللبنانية من التدخل السوري رغم انسحاب الجيش السوري من لبنان على إثر مقتل رئيس الحكومة رفيق الحريري، كما أن التدخل الإيراني من خلال «حزب الله» أدى إلى فوضى أمنية وفراغ دستوري تكرّر أكثر من مرة وما يزال موقع رئاسة الجمهورية شاغراً منذ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وكان تدخل «حزب الله» في الوضع السوري والتجاء مئات الآلاف من السوريين إلى الأراضي اللبنانية مقدمة لاضطرابات أمنية جديدة كان آخرها الحملة الموجهة ضد السوريين والاعتداء عليهم في الشوارع والمطالبة بعودتهم إلى سوريا، وذلك على إثر اختطاف ومقتل القيادي في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان على يد عصابة وما تزال التحقيقات الأمنية في القضية جارياً، وقد اعتبر حزب القوات اللبنانية الجريمة سياسية، كما أكد بيان الحزب على عوامل جوهرية وأساسية أدت إلى عملية الاغتيال: أولها تعطيل «حزب الله» لدور الدولة وتوليد الفوضى، وثانيها الحدود السائبة التي حولها «حزب الله» إلى خطّ استراتيجي بين طهران وبيروت، وثالثها يتمثّل في منع إدارات الدولة القضائية والأمنية والعسكرية وغيرها من العمل في مناطق معينة أو في قضايا معينة أو في أي أمر يتعلق بأي شخص ينتمي إلى محور الممانعة. وفي بيان للدائرة الإعلامية في الحزب المذكور تم استنكار التعدّيات الهمجية التي يتعرض لها البعض من اللاجئين السوريين، مع التأكيد على أنه لا حجّة لبقائهم في لبنان «خصوصاً أن الأمن في سوريا استتب، وبإمكان جماعة النظام ومعارضيهم العودة إلى المناطق العائدة للنظام والمعارضة»، مشدداً على «أن المطالبة بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم شيء، والتصرف بحقد وهمجية شيء آخر مختلف تماماً». أما وزير الداخلية اللبناني فقد صرح بأن «مقتل سليمان على أيدي عصابة من المواطنين السوريين يشير إلى الحاجة إلى تقييد عدد اللاجئين الذين يدخلون البلاد من سوريا المجاورة». وقد أصدرت منظمة لبنان لحركة البناء الديمقراطي الكردستاني – سوريا تصريحاً بهذا الخصوص أدانت فيه هذه الجريمة داعيةً جميع الأطراف السياسية في لبنان الى ضبط النفس واللجوء الى المؤسسات الشرعية في لبنان للتحقيق والكشف عن حيثيات الجريمة وتقديم الجناة الى القضاء لنيل قصاصهم العادل. وأشار التصريح إلى أن الضالعين في الجريمة من السوريين إنما هم فئة مغرر بها ولا يمثلون الجالية السورية في شيء، ودعا كافة الأطراف السياسية في لبنان الى استبعاد اللاجئين السوريين عن هذه الفتنة، حيث أن ما يجري من دعوات لترحيل السوريين يمهد لتوتير الأجواء. وفي هذا الصدد نرى أن المطلوب من الجهات المسؤولة في الحكومة اللبنانية ضرورة الكشف عن المرتكبين الحقيقيين لهذه الجريمة النكراء وكل من خطط لها ونفذها بهدف زعزعة أمن لبنان واستقراره وتحريض الرأي العام ضد اللاجئين السوريين، كما نؤكد على مسؤولية كل من الحكومة اللبنانية ومنظمة الأمم المتحدة عن سلامة وحماية اللاجئين السوريين، مع التذكير بتقارير المنظمات الدولية وتقييمات حكومات الدول الأوربية للوضع السوري باعتباره غير مهيّأ لعودة اللاجئين. ونرى هنا بأن ملف اللاجئين السوريين مرتبط بالعملية السياسية وأن عودتهم لا يمكن أن تتم إلا بشكل طوعي مع ضمان أمنهم وكرامتهم.

ويواجه لبنان من جهة ثانية مخاطر امتداد الحرب الجارية في غزة إلى أراضيها، خاصة وأن «حزب الله» قد صادر قرار السلم والحرب لمصلحة متبوعه إيران التي تقف ليس فقط خلف الأزمة اللبنانية الداخلية بل أيضاً خلف عرقلة حل القضية الفلسطينية من خلال دعمها لحركة حماس التي تسببت من خلال العملية الإرهابية التي نفذتها ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول من العام الماضي بجلب الحرب على قطاع غزة واستمرارها حتى اليوم، علماً أن ذلك كان من الممكن أن ينتهي «على الفور لو كانت حماس قد توقفت عن الاختباء خلف المدنيين، وأطلقت سراح الرهائن، وألقت أسلحتها» كما قال وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن. ولكن مع استمرار الحرب واحتمالات توسعها على أكثر من رقعة في المنطقة فإن طرح حل «الدولتين» يبدو عسير التطبيق، وتجلى ذلك في جلسة يوم 11 نيسان الجاري لمجلس الأمن الدولي من خلال رفض منح فلسطين صفة العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة. ومن جهة أخرى لم تتمكن محاولات بعض الدول العربية لتهدئة الوضع في غزة من تحقيق النتيجة المرغوبة، أما السلطة الوطنية الفلسطينية فقد سعت لترتيب البيت الفلسطيني استعداداً لليوم التالي بعد عملية غزة حيث كلّف الرئيس محمود عباس شخصية من خارج منظمة التحرير الفلسطينية بتشكيل الحكومة، عسى ذلك يخفف من الحساسيات ويفسح المجال لعودة غزة إلى حضن السلطة الشرعية.

وعلى الساحة العراقية تبدو آثار الأزمة السورية وما نجم عنها من تعقيدات وتشابكات إقليمية غير بعيدة عما يشهدها العراق على الصعيدين الأمني والسياسي وعلى صعيد علاقة المركز مع إقليم كوردستان، ففي حين تجعل إيران من العراق جسراً للوصول إلى كل من الساحتين السورية واللبنانية وموطئ قدم لتحقيق مشروعها التوسعي للسيطرة على المنطقة وصولاً إلى سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، تسعى الولايات المتحدة إلى جعله عازلاً للنفوذ الإيراني ومنطلقاً باتجاه شرق أوسط مختلف، وتأتي في هذا السياق محاولة «التحالف الدولي لمحاربة داعش» ربط مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع منطقة التنف. وينعكس الصراع بين الطرفين بشكل أساسي على ساحة إقليم كوردستان إنْ باستهداف أراضيه بالصواريخ والمسيّرات من قبل الميليشيات العراقية التابعة لإيران، أو بمحاصرته والضغط عليه من قبل المركز وقطع الميزانية عنه، أو بعرقلة تطوره الداخلي الطبيعي والحد من صلاحياته الدستورية. وجاء قرار المحكمة الاتحادية بإلغاء مقاعد الكوتا الأحد عشر في برلمان إقليم كوردستان وبإجراء الانتخابات في دوائر متعددة بدلا من الدائرة الواحدة وبإشراف المركز على الانتخابات كحلقة في هذه السلسلة، وهذا ما أدى بأكبر أحزاب الإقليم (الحزب الديمقراطي الكوردستاني) إلى التهديد بالانسحاب من العملية السياسية ومقاطعة انتخابات برلمان الإقليم المقررة في 10 يونيو/حزيران القادم، بعد تأجيلها عدة مرات من قبل المحكمة الاتحادية، ومن المحتمل تأجيلها مرة أخرى لذلك السبب، وإلاّ قد تشهد الساحة المزيد من الاحتقان سواء داخل الإقليم أو على صعيد علاقة الأخير مع بغداد. وتكمن إشكالية المحكمة الاتحادية في عدم وجود قانون ناظِم لعملها كما تنص المادة 92 من الدستور حيث تعمل مطلقة اليد في الحركة والنظر في المواد الدستورية والفصل بين المتنازعين، كما تكمن في ممارستها السافرة للسياسة وكسر حاجز الفصل بين السلطات والتعدي على صلاحيات كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية وهي بذلك تمارس سياسة فئوية. وفي هذا الصدد نقيّم إيجاباً زيارة رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني ومن ثم رئيس حكومته مسرور بارزاني إلى بغداد أوائل هذا الشهر لحلحلة بعض القضايا حيث نجم عن ذلك اتفاق الجانبين على استئناف تصدير النفط من إقليم كوردستان عبر شركة تسويق النفط العراقية (سومو) والالتزام بهذا الاتفاق وصولاً إلى إقرار قانون النفط والغاز الاتحادي، كما نجم عن الزيارة قرار حكومة السوداني بالتعجيل في صرف رواتب موظفي إقليم كردستان دون التقيّد بالضوابط التي أقرّتها المحكمة الاتّحادية. ونرى في هذا الصدد عموماً أنه بالرغم من بعض الملفات الداخلية المتعثرة والتحديات المرتبطة بالعلاقة مع حكومة المركز والتحديات الإقليمية فإن إقليم كوردستان العراق يشهد منذ ثلاثة عقود حالة التحوّل إلى مركز سياسي هام إن على الصعيد الوطني العراقي أو على الصعيد الإقليمي، وذلك انطلاقاً من التطور الذاتي وتطوير تلك التجربة الفتية وإرادة التحوّل إلى نموذج يحتذى به، ولضمان سلامة المسيرة وصيانة التجربة وتطويرها لا بد من الانطلاق من وحدة الصف السياسي في الإقليم وتعزيز البنية الأساسية فيه.

ووسط تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والحالة الإنسانية في مختلف أرجاء سوريا وباختلاف الجهات المتنفذة، تذهب الأوضاع إلى المزيد من التردّي، ففي مناطق سيطرة النظام ازدادت جرائم القتل والاغتيال والاختطاف والابتزاز. وبالنسبة للملفات الأخرى وخاصة فيما يتعلق بملف الاعتقال والاختفاء القسري فلا يزال دون تحريك رغم إنشاء مجلس الأمن الدولي آلية خاصة به وأما ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فلا تزال معلقةً دون ملاحقة باستثناء بعض القضايا التي حركها الادعاء العام في بعض الدول الأوروبية ضد شخصيات كانت أو لا تزال تنتمي إلى النظام وصدور أحكام قضائية ومذكرات توقيف في بعض من تلك القضايا بحق كبار رجالات النظام. وهنا نؤكد على أن لا سلام بدون عدالة ولا يمكن الانتقال إلى الحل السياسي دون ملاحقة المجرمين ومحاسبتهم وتعويض الضحايا، لذا فإن العدالة الانتقالية تبدو كمعبر إلى العدل والسلام.

من جهة أخرى تحولت الأراضي السورية إلى ساحة مستباحة يتقاتل فيها الأنداد دون أن يكون للنظام أي رأي أو موقف أو قرار جدّي، وهذا يدل على فشل الدولة ليس فقط على الصعيد الداخلي بل أيضاً على صعيد السيادة والسياسة الخارجية، وهنا نشير إلى تكرر الاستهداف الإسرائيلي لمواقع ومصالح وشخصيات إيرانية داخل سوريا، كان آخرها استهداف القنصلية الإيرانية في العاصمة دمشق في الأول من شهر نيسان الحالي، ما أدى إلى مقتل عدة مستشارين عسكريين، من بينهم محـمد رضا زاهدي، القائد الأبرز في فيلق القدس الإيراني. ويستشف من القصف الأخير تجاوز اسرائيل لحدود الصراع السابقة حيث يعتبر مبنى القنصلية جزءاً من الأراضي الإيرانية بحسب القانون الدولي، كما ينم عنه عدم اكتفاء إسرائيل بالسبل التفاوضية وكذلك اختبار القدرات الإيرانية وخياراتها المحتملة، وفي هذا السياق أتت عملية الشدّ والجذب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية إذ هددت الأولى بردّ كبير بينما حاولت الأخيرة صرف الأولى عن الرد مع التأكيد على وقوفها إلى جانب حليفتها إسرائيل في أي اعتداء يستهدف الأخيرة. وجاءت عملية سيطرة ايران في 13 نيسان الجاري على سفينة بالقرب من مضيق هرمز يملكها جزئياً رجل أعمال إسرائيلي لتعطي إشارتين: الأولى امتداد تهديد المضائق البحرية وصولاً إلى الخليج ومضيق هرمز بعد استهداف الميليشيات الحوثية سابقاً للسفن العابرة لمضيق باب المندب، والثانية إمكانية تحويل المواجهة إلى الساحة البحرية المفتوحة بعد أن كان الاستهداف محصوراً بأهداف برية. كما جاء الاستهداف الإيراني للأراضي الإسرائيلية ليلة 13/ 14 من نيسان الجاري بمسيّرات وصواريخ بعيدة المدى كردّ على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق لتفتح الجبهة على مصراعيها بانتظار ردّ إسرائيلي مدعوم أمريكياً وأوروبياً لا يُعرف بعد مدى قوته والتداعيات المرافقة واللاحقة له. وجاء الموقف الأمريكي على شكل إدانة شديدة تكررت من قبل كل من الرئيس بايدن ووزارة الخارجية، لكن وزير الدفاع لويد ج. اوستن أضاف إلى الإدانة دعوته إيران إلى وقف أية هجمات إضافية والتخفيف من حدة التوترات، مؤكداً أن بلده لا تسعى إلى نزاع مع إيران ولكنها لن تتردد في التحرك «لحماية قواتنا ودعم الدفاع الإسرائيلي». كما جاء موقف قادة مجموعة الدول الصناعية السبع منسجماً من الموقف الأمريكي بإدانة الهجوم الإيراني على إسرائيل.

وفي مناطق سيطرة «قسد»، تستمر حالة التذمر الشعبي نتيجة سوء الحالة المعيشية والأداء الخدمي والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان وحالات التجنيد القسري واختطاف القصّر، كما يستمر الاضطراب الأمني نتيجة الضربات التركية وبعض التوترات العشارية، ويستمر حزب الاتحاد الديمقراطي بتفرّده بمصير المنطقة وقطع الطريق على القوى السياسية الأخرى الموجودة على الأرض للمساهمة من خلال حوار جدّيّ وبنّاء برعاية دولية يفضي إلى اتفاق كوردي – كوردي يضمن إعادة النظر بالأساس القانوني والهيكلي للإدارة من مختلف جوانبها بما يضمن استقلالية قرارها وسلامة موقعها في المعادلة السياسية الوطنية والإقليمية وإنجاز حالة تلبي تطلعات الشعب وتمنع الذرائع عن الجهات المتربصة وتؤسس لعلاقات طبيعية مع الجوار الإقليمي. وقد وصل الحوار الذي رعاه الجانب الأمريكي بين أحزاب الوحدة الوطنية الكوردية (PYNK) والمجلس الوطني الكوردي (ENKS) إلى طريق مسدود إذ تمكّنت الجهات المتضررة من اتفاق الكورد من إملاء إرادتها مستغلةً عدم جدية طرفي الحوار وافتقادهما لاستقلالية القرار الكوردي السوري.

وفي مناطق النفوذ التركي التي تسيطر عليها الفصائل التابعة لـ «لائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» وحكومته المؤقتة تستمر حالة الفوضى الأمنية والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان والإحلال الديمغرافي، وخاصة في المناطق الكوردية حيث يتم ارتكاب جرائم القتل والابتزاز والنهب وقطع الأشجار وسرقة الآثار.. ولا تزال غالبية سكانها الأصليين تسكن في خيام بعيداً عن مناطقها كما هو الحال بالنسبة لأهالي عفرين وگريسپي وسريكاني. كما أن مناطق جرابلس والباب وإدلب تعاني وضعاً مماثلاً. وهنا يتحمل «الائتلاف» وجميع القوى المنضوية تحت لوائه بمن فيها المجلس الوطني الكوردي كامل المسؤولية السياسية والقانونية عما حدث ويحدث من انتهاكات في تلك المناطق منذ آذار عام 2018، خاصة وأن الميليشيات التي ترتكب تلك الانتهاكات على الأرض تمثل جزءاً من تركيبة «الائتلاف» وأن الحكومة المؤقتة التابعة له تتبنى إدارة القطاعات الإدارية كل بحسب الوزارة المعنية في تلك الحكومة.

أما المنطقة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) فهي بدورها قد تحولت إلى إمارة تتحكم برقاب الناس وتعمل على إعادتهم إلى القرون الوسطى من خلال سلوك الأجهزة الأمنية والقضائية وسياسات ما تسمى بحكومة الإنقاذ، وكانت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة ضد القوة المهيمنة وسياساتها دليلاً على مدى استفحال الوضع ومساسه بمعيشة وكرامة الأهالي في تلك المنطقة.

ويستمرّ الحراك السلمي في السويداء مع مخاوف من انعكاسات أمنية نتيجة محاولات النظام تحريف وجهته، بالإضافة إلى أسئلة أساسية يتم طرحها من المتابعين حول مصير الحراك نفسه في ظلّ الأوضاع الراهنة وحول النتائج السياسية المتوقعة منه. وفي حين تنادي بعض الأصوات من داخل الحراك بتحويل المحافظة إلى حالة ذاتية الإدارة تعترض أصوات أخرى بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية وعدم تكرار تجربة الإدارة الذاتية التي تشمل محافظتي الرقة والحسكة وأجزاء من محافظتي حلب ودير الزور.

أما اللاجئون السوريون وخاصة في دول الجوار السوري فإن أوضاعهم تنتقل من سيء إلى أسوأ، وخاصة مع طول مدة بقائهم في دول اللجوء واستمرار قسم كبير منهم في العيش في مخيمات تفتقد إلى أدنى المقومات الحياتية وبروز موجات من الاحتجاج الشعبي ضد وجودهم في تلك البلدان واستغلال ذلك من قبل أطراف سياسية محلية وخاصة في كل من لبنان وتركيا. لذا شددت الولايات المتحدة الأمريكية في التاسع من الشهر الجاري عبر الموقع الافتراضي لسفارتها في سوريا على الفقرة 14 من قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 2254 الصادر عام 2015 والتي تدعو إلى تهيئة الظروف التي تسمح بعودة اللاجئين والنازحين إلى سوريا بشكل طوعي وآمن وكريم، مع التأكيد على أنه «في نهاية المطاف، فإن أفضل طريقة لتمكين العودة الطوعية للاجئين السوريين هي أن يقوم نظام الأسد بتهيئة الظروف اللازمة للعودة، بما في ذلك عن طريق إنهاء التجنيد الإجباري، وضمان حقوق الأراضي والملكية، وإقامة وقف لإطلاق النار على الصعيد الوطني، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان، والمشاركة الحقيقية في الجهود نحو الحل السياسي»، وأنه «ينبغي معاملة جميع اللاجئين والنازحين معاملة إنسانية، ويجب أن يتمتع أي شخص محتجز بجميع أشكال الحماية القانونية المعمول بها».

ومن جانبه واصل المبعوث الدولي جير بيدرسون مساعيه لجمع طرفي العملية التفاوضية وتوصّل بعد مساعي ولقاءات مع بعض الجهات ذات العلاقة إلى تحديد موعد الجولة التاسعة للجنة الدستورية، بين 22 و26 من شهر نيسان/ ابريل الحالي، دون توافر أية معطيات محلية أو دولية تدفع على الأمل بتحقيق ما فشلت فيه الجولات السابقة، وعلى هذا يبدو أن الجولة المقبلة – إن انعقدت – فستكون نسخة مكررة عن سابقاتها.

خلاصة القول : واضح أن المنطقة برمتها تتجه نحو المزيد من التصعيد، وأن سوريا مقسمة فعلياً إلى مناطق نفوذ أشبه بدويلات لكل منها نظامها التعليمي والإداري والجمركي وعلاقاتها الخارجية ومنظوماتها الأمنية والعسكرية المختلفة والمنفصلة، وأن المناخات السائدة مساعدة نحو ترسيخ واقع الانقسام، وأن النخب السورية (موالاة ومعارضة) مازالت بعيدة عن صياغة رؤية وطنية سورية مختلفة عن رؤية منظومة البعث والأسلمة السياسية، وأن المعارضات بمختلف مؤسساتها ومنصاتها باتت عاجزة عن إحداث أي اختراق في الواقع المزري أو تقديم ما هو مختلف أو متقدم على رؤية النظام لجهة استيعاب كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية. لذا نرى أن الدعوة لعقد مؤتمر وطني سوري يشارك فيه ممثلو كافة مكونات الشعب السوري وبرعاية أممية لانتخاب قيادة سياسية – عسكرية “مؤقتة” والتوافق على رؤية أولية جوهرها التوافق والشراكة، وجدولة زمنية لخروج كافة الغرباء من سوريا، لإعادة إنتاج جمهورية سورية اتحادية بنظام ديمقراطي على مسافة واحدة من كل تلك المكونات، قد يشكل مخرجاً لإحداث اختراق في جدار الأزمة، ووقف نزيف الهجرة والتهجير، ووضع حد للمحرقة.

في 15 نيسان 2024
المكتب التنفيذي لحركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى