في إشكالية الانتماء المزدوج – كرد سوريا انموذجاّ

كيف تأسست التبعية في خطاب أحزاب الحركة السياسية الكردية في سوريا – الجزء الثاني
علي مسلم
يولد المرء حراً حين يغادر مكانه في الرحم، لكنه سرعان ما يفقد جزءً من حريته حين تبدأ معركته الأولى مع الوعي، وتتالى انكساراته تباعاً سيما حين يصطدم مع ثقافة المكان، فالزمان، والظروف المحيطة، وهلما جرى، وبهذا يكون قد انقاد مرغماً الى قوانين وضوابط عفوية مرتبطة بثقافة بيئة النشأة التي ينتمي اليها بحكم العادة، وبذلك يجد نفسه امام خيارين لا ثالث لهما، فإما ان يلتزم الصمت ويغدو تابعاً حتى مماته، أو يتمرد على الواقع ويرسم لنفسه مساراً مخالفاً ؟!، وما أكثر الذين صمتوا واختاروا التبعية في واقعنا البائس!!
باعتقادي لا يستقيم البحث عن اسباب الإخفاق والتبعية في الخطاب السياسي الكردي في سوريا دون المرور وبإسهاب على الظروف والدوافع السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيل جمعية خويبون، والتي تعتبر بحق العباءة التي خرج منها الحزب السياسي الكردي في سوريا، فبرغم من ان هذه الجمعية قد ساهمت الى حد بعيد في نشر الثقافة الكردية في الوسط الكردي القبلي الجاهل، لكنها بذات الوقت زرعت بذرة التبعية في اذهان العامة من الكرد في المجتمع السوري بعد ترسيم الحدود، وفق جدلية السطوة !، بمعنى سطوة الجزء الأكبر على مقدرات الجزء الأصغر، وبات ذلك جزءاً اساسياً من الموروث الثقافي والسياسي، وكان ذلك سبباً مباشراً في عزل الكرد السوريون عن عمقهم الوطني السوري لعقود طويلة، مما خلق ازدواجية في الولاء وتشتت في المطالب والاهداف، وشكل ذلك مقدمة اولية لخضوع كرد سوريا الى المحاور القائمة، وأفقدهم قدرة البحث في الشخصية الكردية السورية المستقلة، فبعد فشل الثورات والانتفاضات الكردية في كردستان تركيا سيما ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وما رافقها من تداعيات تمثلت في فرض قيود وشروط على مجمل الفئات والطبقات السياسية المتنورة من الكرد في استنبول وغيرها، لهذا لجا المئات من تلك الفئات الى سوريا، واستقروا في بادئ الأمر في الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا، وبعد ذلك انتقل قسم كبير منهم الى المدن الكبرى مثل دمشق وبيروت وحلب، وباشروا عملهم السياسي من هناك.
يقول الكاتب جوردي غور غاس في كتابه ” الحركة الكردية التركية في المنفى” كان الإنجاز الأهم لتلك الطبقة السياسية والنخبوية من الأكراد المنفيين في سوريا هو تأسيس منظمة الاستقلال الكرديّة تحت اسم (خويبون)، التي نجحت في عقد مؤتمرها الأول في 7 تشرين الأول سنة 1927م في منطقة بحمدون اللبنانية، وكان غرضها الأساسي من هذا الاجتماع هو صياغة لغة قومية مشتركة للكفاح ضدَّ النظام التركي الكمالي، وإدارة النشاطات الكردية ضدَّ الترك، والسعي الى استقلال كردستان من نير الأتراك.
أما الدكتور صلاح محمد سليم هروي، يشير في السياق ذاته في كتابه “الأسرة البدرخانية، نشاطها السياسي والثقافي” الى التركيبة الداخلية لهذه المنظمة ويقول:
(كان تركيب حركة خويبون متناقضاً من حيث وجود أقلية متعلمة قومية ميسورة كأبناء عائلة بدرخان، وآل جميل باشا وغيرهم من المعارضين القادمين من اسطنبول، وبعض الرجال العسكريين مثل إحسان نوري، إضافة إلى أغوات وشيوخ عشائر كان من الصعب إقناعهم بالتخلي عن طموحهم بالزعامات المحلية واستبدال الولاء القبلي بالولاء القومي)، بيد ان السبب الاساسي في انكفاء بعض الزعامات القبلية من كرد سوريا، سيما اولئك الذين شاركوا في تأسيس منظمة خويبون أمثال ( ابناء شاهين بك، وحاجو اغا، وابناء ابراهيم باشا الملي ) كان أكبر واعمق من ذلك بكثير، سيما بعد انخراط خويبون في العمل العسكري عام 1930، ولعل التفكير في مستقبل قبائلهم كان قد أخذ الحيز الأكبر في ذلك، الى جانب ان هذا الخيار كان ينطوي على هشاشة نقص في وحدة العمل الكردي وهذا ما ساهم في تردد زعماء القبائل الكردية وفق تعبير بيير روندو الذي نقله غورغاس، فحاجو آغا تردد في اقتحام مدينة مديات كما كان مقرراً، وتساءل عن ردة فعل الفرنسيين، وعبر عن هواجسه في شأن مستقبل قبيلته وفي شأن وضعه كوجيه في الجزيرة العليا، وكذلك لم تقدم القوى التي كان يقودها أبناء شاهين بك وأبناء ابراهيم باشا الملي على المشاركة لأسباب مشابهة، وربما كان وراء ذلك أسباب تتعلق بالمصالح والامتيازات التي اكتسبوها في ظل الحماية الفرنسية.
ومن خلال التمعن في الخطاب السياسي الذي تأسست عليها المنظمة فقد اخذ ذلك منحاً اشد ايلاماً فيما يخص الحقوق القومية لكرد سوريا، بل تجاوز ذلك لحد التنكر للجزء السوري من كردستان، وقد ظهر ذلك في خطاب كاميران بدرخان أحد أبرز رموز (خويبون)، وابن العائلة التي أقامت حكومة شبه ذاتية في جزيرة ابن عمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي محاضرته التي حملت عنوان “المشكلة الكردية” أمام الجمعية الملكية الآسيوية بلندن في 6- تموز 1949، يذكر نتيجة مفادها: “استولت على الشعب الكردي ثلاث دول، لذلك انقسمت كردستان بين هذه الدول الثلاث وهي إيران وتركيا والعراق” حسب ما ورد في كتاب “البدرخانيون في جزيرة بوطان – ماليميسانز- وثائق جمعية العائلة البدرخانية – ترجمة كولبهار بدرخان – مطبعة اميرال، لبنان- بيروت صفحة 193”.
كذلك نجد رأي نور الدين الديرسمي (وهو شخصية قيادية كردية معروفة آنذاك) الذي يستعرض القضية الكردية بشرح مطول منشور عبر جريدة الحرية في عددها العاشر لسنة 1957م فيقول: ” لقد قسمت الأطماع الغاشمة كردستان إلى ثلاثة أجزاء، كان أولها من حصة تركيا، والقسم الثاني من حصة إيران، والقسم الثالث ضمن حدود الدولة العراقية.
يتبع …..

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
علي مسلم