قراءة في المشهد السوري وتداعياته الإقليمية

بنهاية شهر تموز 2024 دخل النزاع المسلح في سوريا عامه الرابع عشر، حيث أُضيفَ القانون الدولي الإنساني إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان في تقييم الحالة السورية والجرائم المرتكبة فيها، والتي تؤكد التقارير الدولية على أنها ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى ارتكاب النسبة الأكبر من تلك الجرائم على يد النظام السوري، أما النسبة المتبقية فتتقاسمها سلطات الأمر الواقع على طول البلاد وعرضها، بما فيها الجرائم التي ارتكبها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف باسم «داعش»، والتي لايزال عدد كبير من ضحاياها مجهولي المصير حتى بعد فقدانه للسيطرة على الأرض.
وتزداد المخاوف من عودة تنظيم «داعش» إلى الواجهة بعد التحذير الدولي من نموّ قدراته وتزايد خطورته، وإفراج «الإدارة الذاتية» عن أعداد كبيرة من محتجزيه. وكانت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي استضافتها الولايات المتحدة في الفترة بين 9 و 11 تموز 2024 – والتي صادفت الذكرى 75 لتأسيس الحلف – قد اعتمدت تبني استراتيجية دفاعية متعددة المحاور، وتداولت موضوع مكافحة الإرهاب والاستجابة للتحديات ما بعد الجناح الجنوبي للحلف حيث أكدت على أن مفهوم الناتو الاستراتيجي يحدد الإرهاب كأكثر تهديد مباشر وغير متماثل للحلف، وعلى مواصلة الحلفاء مراجعة التهديدات والتحديات القائمة والناشئة من جيران الحلف الجنوبيين، وبخاصة في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وبينما تواصل الولايات المتحدة تعزيز مواقعها في شمال وشرق سوريا، وتستقدم تعزيزات جديدة إلى قواعدها المنتشرة في مناطق من كُردستان سوريا، تصرّح برفضها لمساعي التطبيع مع النظام السوري، ورغم ذلك نجد على الأرض مساعي من بعض الدول العربية والأوربية لإعادة فتح سفاراتها في دمشق، ويبدو أن تلك المساعي تدخل في خانة إيجاد سبل إضافية للدفع بالنظام إلى التجاوب مع التوجه الدولي نحو إيجاد مخارج سياسية ولو مؤقتة للأزمة السورية التي تنعكس نتائجها الكارثية ليس على الصعيد المحلي السوري فحسب بل أيضاً على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وبعد المحاولات الحثيثة للجانب التركي للقاء مع النظام السوري وإعادة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها، بدا الأخير متعنتاً ورافضاً، بل أضاف عقدة جديدة إلى هذا المسار من خلال وضع الرئيس التركي على رأس «قائمة داعمي الإرهاب» التي أصدرتها هيئة مكافحة وغسل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة للنظام. وبدا المسعى التركي متناغماً وموازياً للمسعى الروسي الهادف إلى إبعاد النظام عن حليفه الإيراني والدفع به إلى سلوك المسار الدولي لإيجاد حل سياسي للمسألة السورية، وجاء لقاء الرئيس الروسي برئيس النظام في موسكو في هذا السياق. وليست تلك الجهود ببعيدة عن المساعي العربية المشار إليها، والتي تحاول بطريقتها جرّ النظام إلى العملية السياسية بما يتماشى مع القرارات الدولية وخاصة قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 2254، إلا أنه يبدو من المرجح أن الجانب الإيراني قد نجح حتى الآن في إقناع النظام بأنّ تَجاوُبَه مع الأطراف المذكورة سيؤدي في نهاية الأمر إلى فقدانه للحكم وزواله، بما يعني ذلك من تداعيات غير محمودة بالنسبة له. ويأتي الهجوم الإرهابي لحزب الله على قرية مجدل شمس في الجولان كمحاولة إيرانية لعرقلة الجهود الدولية المذكورة وفتح جبهة جديدة لن تكون أخفّ وقعاً وأهون مصيراً مما خلفته العملية الإرهابية التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من شهر تشرين الأول من العام المنصرم. ويبدو أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى واشنطن، والتي وقع الهجوم المذكور لحزب الله في أثنائها، قد نجحت في كسب المزيد من التأييد الشعبي والدعم الرسمي الأمريكيين للحليفة إسرائيل في مواجهة أعدائها وصيانة أمنها.
مما سبق نجد أن كل الدلائل تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط ذاهبة نحو المزيد من العنف والتصعيد، وهذا ما صرح به الرئيس الروسي في لقائه برئيس النظام السوري، ولن تكون هناك حلول سياسية حقيقية قريبة للقضايا الخلافية وقضايا شعوب المنطقة. وفي الوقت ذاته، ونظرا لدخول الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة التحضير للانتخابات الرئاسية القادمة بعد حوالي ثلاثة أشهر، فلا نتوقع حصول تغييرات ميدانية كبيرة مرحلياً في ما يتعلق بالتموضعات ومناطق النفوذ القائمة. وفي هذه المرحلة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية العودة إلى بعض الملفات المحلية والإقليمية، منها إعادة الروح إلى ملف الحوار بين كل من المجلس الوطني الكُردي (Enks) وأحزاب الوحدة الوطنية الكُردية (Pynk) والمتوقف منذ سنوات. وفي هذا الصدد نرى أن الأسباب التي أدت إلى فشل الاتفاقيات السابقة بين الطرفين، وكذلك توقف الحوار منذ أكثر من عامين لاتزال قائمة، وفي مقدمتها افتقار الطرفين إلى استقلالية القرار الكُردي السوري واختصار الحوار بين الطرفين المذكورين بوضعهما الحالي وتجاهل القوى السياسية الموجودة على الأرض والتي يمكن أن تحدث فرقاً وتردم الهوة بفرض الجدية في الحوار وتثبيت مخرجاته على أرض الواقع.
ومن ضمن الملفات التي يمكن
للولايات المتحدة تداولها مرحلياً أيضاً ملف العلاقات التركية – العراقية وكذلك العلاقة بين بغداد وأربيل، وفي هذا السياق جاءت زيارة الرئيس التركي لبغداد وأربيل، كما جاءت زيارتا كل من رئيس إقليم كوردستان العراق ورئيس حكومته إلى بغداد، ليتوّج ذلك بزيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى بغداد، والتي تركت بصمات هامة في العلاقة بين الطرفين. وليس بعيداً عن ذلك ما طالبت به واشنطن بضرورة تنفيذ اتفاقية سنجار بالكامل مع اقتراب الذكرى العاشرة لهجوم تنظيم «داعش» على تلك المنطقة، والتي تعني إنهاء سيطرة «پ ك ك» على تلك المنطقة، وكذلك تعميم مجلس النواب العراقي بالتقيد بتوجيه رئيس الحكومة العراقية باعتماد تسمية «حزب العمال الكردستاني المحظور» في المخاطبات والكتب الرسمية كافة التي يذكر فيها الحزب المذكور.
ويبدو أن الضغوط الدولية والتهديدات الإقليمية قد تمكنت من وضع الانتخابات المحلية التي أرادت «الإدارة الذاتية» إجراءها على الرفّ، إلاّ أن انتخابات «مجلس الشعب» التابع للنظام قد أجريت كما كان مقرراً وذلك رغم الموقف الأمريكي الذي استنكرها واعتبرها زائفة ومخالفة لقيم الحرية والعدل وبعيدة عن أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وشمولية بحسب ما يدعو إليه القرار رقم 2254. ومن جهتنا نؤكد على أن هذه الانتخابات عديمة المصداقية، وتنتهك القرارات الدولية، وتعتمد على دستور غير شرعي وقانون انتخابات مليء بالتناقضات والثغرات والانتهاكات، وتستند إلى سطوة الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى أن هذه المؤسسة، التي من المفترض أنها تمثل السلطة التشريعية، تعتبر أداة قمع وسيطرة بيد النظام السوري.
أما فيما يخص ملف اللاجئين السوريين في دول الجوار فقد ازدادت موجة الكراهية والرفض لوجودهم وخاصة في كل من لبنان وتركيا، وكان ملفتاً مطالبة العشرات من منظمات المجتمع المدني للاتحاد الأوروبي بإيقاف تمويل ودعم انتهاكات حقوق اللاجئين السوريين في تركيا، معربةً عن مخاوفها البالغة بخصوص الارتفاع الحاد في المشاعر المعادية للاجئين السوريين في تركيا وما يصاحبها من أعمال عنف ضدهم. ودعت تلك المنظمات الاتحادَ الأوروبي إلى التحرك السريع لحماية حقوق اللاجئين السوريين من خلال فرض عقوبات فورية على الأحزاب والشخصيات السياسية التركية المشارِكة في خطاب الكراهية الذي يستهدف اللاجئين، ونشر تحليل حديث حول ما إذا كان يمكن أن تُعتبر تركيا بلدًا ثالثًا آمنًا على النحو المحدد في المادة ٣٨ من توجيهات إجراءات اللجوء للاتحاد الأوروبي، وريثما يحدث ذلك وجوب تجميد جميع المساهمات المالية المقدمة إلى تركيا إلى أن توقف جميع عمليات ترحيل اللاجئين السوريين إلى سوريا ومقاضاة كل حالات أعمال العنف ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وأخيراً إصدار بيان يُقرّ بأن سوريا ليست بلدا آمنا للاجئين السوريين.
وسجل الوضع في كل من منطقتي الساحل والجنوب السوريين تطورات ملفتة ، فقد صدر «ميثاق عهد تجمع العمل الوطني في الساحل السوري» مستهدفاً «المشاركة بتوحيد رؤية سياسية سوريّة للتغيير السياسي في سوريا، مدخلها تطبيق القرار 2254 والقرارات الدولية ذات الصلة، واستعادة السلطة والدولة والنظام السياسي لمصلحة الشعب السوري، وبناء دولة ديموقراطية حديثة تحترم حق الاعتقاد من عدمه، وتمنع تدخل السياسة في الدين أو الدين في السياسة، مع الحفاظ على كل منهما في مجاله الملائم، الداعم للحياة الإنسانية السوريّة». وفي السويداء توجهت الهيئة العامة للحراك السلمي نحو تنظيم أكبر من خلال تشكيل لجنة سياسية تماشياً مع «المطالب المحقة للسوريين وبناء دولة العدل والمساواة، وانطلاقاً من حق الشعب السوري في تقرير مصيره ببناء دولته الديمقراطية الدستورية العادلة» حسب ما جاء في بيان الهيئة.
في 1 آب 2024
المكتب التنفيذي
لحركة البناء الديمقراطي الكُردستاني – سوريا