تركيا بين الطموح السياسي وألاعيب القضاء: هل ينجح أردوغان في إقصاء إمام أوغلو؟

محمد عباس
تشهد الساحة السياسية التركية حالة من الاستقطاب الشديد بين الرئيس رجب طيب أردوغان ومنافسه الأبرز أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، حيث باتت المواجهة بين الرجلين تتخذ طابعًا يتجاوز التنافس الانتخابي التقليدي إلى معركة سياسية مفتوحة يستخدم فيها القضاء كأداة رئيسية. في ظل اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، يبدو أن السلطة الحاكمة تسعى لإزاحة إمام أوغلو من المشهد السياسي عبر توجيه تهم قضائية تهدف إلى إضعاف موقفه أمام الناخبين وربما منعه من الترشح للرئاسة. هذا التصعيد السياسي يرتبط بشكل مباشر بمعضلة أردوغان القانونية، حيث تنص المادة 101 من الدستور التركي على أن الرئيس لا يمكن أن يشغل المنصب لأكثر من ولايتين متتاليتين، ما يعني أن أردوغان قد استنفد فرصه الدستورية في البقاء في الحكم بعد انتهاء ولايته الحالية.
أمام هذا القيد الدستوري، يجد أردوغان نفسه في موقف صعب يستدعي البحث عن خيارات تتيح له البقاء في السلطة، وأبرز هذه الخيارات يتمثل في تعديل الدستور الحالي، وبالتحديد المادة 101، بحيث يُسمح له بالترشح مجددًا وربما لعدد غير محدود من الولايات. إلا أن هذا الخيار يتطلب تحقيق أغلبية الثلثين في البرلمان، أي 400 نائب من أصل 600، وهو أمر بعيد المنال في ظل توازن القوى الحالي داخل البرلمان. فحزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه أردوغان، يملك 263 مقعدًا، بينما حليفه حزب الحركة القومية لديه 58 مقعدًا، مما يجعل مجموع نوابهما 321 نائبًا، وهو رقم لا يقترب من العتبة المطلوبة لتمرير تعديل دستوري. في المقابل، تسيطر المعارضة المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري وأحزاب أخرى على بقية المقاعد، ما يعني أن تمرير تعديل دستوري يستدعي توافقًا سياسيًا أوسع، وهو أمر غير مرجح في ظل الاستقطاب الحالي.
بسبب هذه الصعوبات، يبقى أمام أردوغان خيار آخر أكثر قابلية للتحقيق وهو اللجوء إلى انتخابات مبكرة، استنادًا إلى المادة 116 من الدستور التركي، حيث يمكنه حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. هذه الخطوة، إذا تمت، ستسمح له بالالتفاف على القيد الدستوري المفروض على عدد الولايات الرئاسية، إذ ينص الدستور على أن الدعوة لانتخابات مبكرة تُعتبر حالة استثنائية لا تُحسب ضمن عدد الولايات الدستورية للرئيس. وهكذا، يمكن لأردوغان أن يترشح مجددًا بحجة أن ولايته لم تكتمل وفقًا للقواعد الانتخابية العادية. لكن تنفيذ هذا السيناريو يتطلب شرطًا أساسيًا وهو موافقة ثلاثة أخماس أي 60% من أعضاء البرلمان على حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهو ما قد يكون مغامرة محفوفة بالمخاطر، إذ لا يضمن أردوغان أن يحصل على الأغلبية المريحة التي يسعى إليها، خاصة مع تنامي قوى المعارضة وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في بعض المناطق الرئيسية مثل إسطنبول وأنقرة.
العقبة الكبرى التي تواجه أردوغان في أي انتخابات مقبلة حتى ولو استطاع اردوغان من تعديل الدستور أو حل البرلمان ( وهو أمر صعب المنال في الوقت الراهن) تتمثل في صعود نجم أكرم إمام أوغلو، الذي بات يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل الحزب الحاكم. فمنذ فوزه برئاسة بلدية إسطنبول عام 2019، نجح إمام أوغلو في تعزيز شعبيته عبر سياسات إدارية ناجحة وقدرته على استقطاب دعم فئات واسعة من المجتمع التركي. الأهم من ذلك أن إمام أوغلو يتمتع بخليط سياسي فريد يجمع بين النزعة العلمانية، بحكم انتمائه لحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، وبين التدين المعتدل الذي يجعله مقبولًا لدى شرائح واسعة من المحافظين الأتراك الذين قد لا يجدون خيارًا مقنعًا في الأحزاب الإسلامية التقليدية. هذا التوازن يجعله منافسًا خطيرًا لأردوغان، الذي لطالما اعتمد على قاعدة ناخبة إسلامية قوية، لكنها بدأت تتآكل بفعل التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها تركيا.
في مواجهة هذا التهديد السياسي، يبدو أن السلطة الحاكمة لجأت إلى استخدام القضاء كأداة لتقويض فرص إمام أوغلو في الترشح للرئاسة. حيث تم توجيه تهم ضده تتعلق بإهانة مسؤولين حكوميين، وهي تهمة تبدو ذات طابع سياسي أكثر من كونها قضية جنائية حقيقية. وأن الهدف الحقيقي من كل هذا عمليًا هو منعه من الترشح لأي منصب سياسي أعلى، إذ أن الإدانة في قضايا من هذا النوع قد تؤدي إلى منعه من ممارسة العمل السياسي مستقبلاً. هذا التكتيك ليس جديدًا في السياسة التركية، حيث تم استخدام القضاء سابقًا ضد شخصيات معارضة مثل صلاح الدين دميرطاش، الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي، الذي سُجن بذرائع مشابهة.
وإذا ما نظرنا إلى توقيت هذه التهم لا يبدو عشوائيًا، بل يأتي في لحظة سياسية حساسة تشير إلى محاولة استباقية من جانب أردوغان لإزالة منافسيه الأقوياء قبل حلول موعد الانتخابات. فإمام أوغلو ليس مجرد رئيس بلدية ناجح، بل هو شخصية قادرة على توحيد المعارضة التركية خلفها، وهو ما يشكل خطرًا حقيقيًا على أردوغان، خاصة في ظل تراجع الأداء الاقتصادي للبلاد وارتفاع معدلات التضخم والبطالة و تراجع السياسة الخارجية التركية والتي باتت تشكل عبئاً على الاقتصاد والدور التركي في المنطقة، وهي عوامل تؤثر بشكل مباشر على ولاء الناخبين التقليديين لحزب العدالة والتنمية.
رغم هذه المحاولات، فإن التخلص من إمام أوغلو سياسيًا قد لا يكون بهذه السهولة، بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فمنع شخصية بحجم إمام أوغلو من الترشح قد يعزز مكانته كرمز للمعارضة ويوحد صفوف خصوم أردوغان، كما حدث في انتخابات إسطنبول عندما تمت إعادة الانتخابات بعد إلغائها في المرة الأولى، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى فوز إمام أوغلو بفارق أكبر. وعلاوة على ذلك، فإن الرأي العام التركي بات أكثر وعيًا بهذه الأساليب، ما يجعل أي خطوة غير ديمقراطية ضد المعارضة محفوفة بالمخاطر السياسية.
المرحلة المقبلة ستحدد مصير تركيا السياسي لسنوات قادمة. فإذا تمكن أردوغان من تعديل الدستور أو فرض انتخابات مبكرة وفق حساباته السياسية، فقد يمدد فترة حكمه لسنوات إضافية. أما إذا فشلت محاولاته في تحييد إمام أوغلو، فقد تكون تركيا على أعتاب تحول سياسي كبير يعيد رسم موازين القوى داخل الدولة. في كل الأحوال، يبدو أن المشهد السياسي التركي يتجه نحو تصعيد غير مسبوق، حيث لا مجال للتسويات الوسطية في معركة ستكون حاسمة لمستقبل الديمقراطية التركية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس