تفاؤل مشروط وحذر واقعي.. هل تنجح سوريا بإعادة هيكلة اقتصادها؟

مختار الإبراهيم
موقع تلفزيون سوريا:24/7/2025
وقف سعيد مسوتي، رجل الأعمال السوري في الخمسينات من عمره، على شرفة منزله في برلين يتأمل سماء المدينة التي احتضنته لأكثر من عشر سنوات، وهو يفكر اليوم في العودة إلى دمشق، وتحديدًا إلى سوق الحريقة، حيث يمتلك متجرًا لبيع الأقمشة. بنبرة لا تخلو من الحنين والواقعية، قال: “عدت إلى سوريا بعد كل هذه السنين، فرأيت بلدًا محطّمًا، لكنه ليس ميّتًا. هناك فرصة حقيقية للنهوض، كما حدث في ألمانيا… فقط إن وُجدت الإرادة”.
حقق سعيد نجاحات تجارية متواضعة في ألمانيا، فـ”التركيبة والعقلية” كما يقول، مختلفة تمامًا. اليوم، لا يفكر في العودة لشراء عقار، بل للاستثمار في صناعة محلية يؤمن أنها قادرة على النهوض من جديد، سيما وأن تجربة ألمانيا ملهمة لتشابه الظروف وحجم الدمار في كلا البلدين.
لكن، هل يمكن لسوريا، التي أنهكتها الحرب، أن تستلهم من تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟ سؤال تفرضه الظروف المأساوية التي تعيشها البلاد، ويجيب عليه الخبراء برؤية تحليلية تتراوح بين التفاؤل المشروط والحذر الواقعي.
من المارك المهترئ إلى الاقتصاد المعجزة
يقول المؤرخ والخبير الاقتصادي الألماني دانييل روغنون: “حين انهار المارك الألماني بعد الحرب العالمية الأولى، لم تنهَر العملة فقط، بل انهارت الثقة بالمؤسسات والدولة ككل”. ويشرح روغنون لموقع تلفزيون سوريا كيف أن إدخال عملة “الرنتنمارك” عام 1924 وربطها بالذهب، بالتوازي مع خطة “داوس” لإعادة هيكلة الديون، شكّل أولى خطوات الإنقاذ، قبل أن تنطلق النهضة الحقيقية بعد عام 1948، عبر إصلاح العملة مجددًا، وتحرير الأسعار، وبدء تدفق الدعم عبر خطة مارشال.
خطة داوس (Dawes Plan) هي برنامج اقتصادي دولي أُقر في مؤتمر ترأسه الأميركي تشارلز غ. داوس عام 1924، هدف إلى حل أزمة المدفوعات التعويضية التي كانت ألمانيا مطالَبة بها بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك عبر جدول زمني مخفف للمدفوعات، وقرض خارجي ضخم لدعم العملة واستقرار الاقتصاد، إضافة إلى إعادة تنظيم البنك المركزي تحت إشراف دولي.
وفي سياق المقارنة مع التجربة الألمانية، تبرز خطة “داوس” كنقطة تحوّل في مسار التعافي الاقتصادي. جاءت الخطة كمبادرة دولية لإعادة هيكلة ديون التعويضات، وأسهمت الإجراءات المصاحبة لها في تحفيز ما عُرف بـ”العشرينات الذهبية”، حين شهد الاقتصاد الألماني انتعاشًا، وانخفاضًا في البطالة، وتحسنًا في البنية التحتية والمؤسسات.
ويرى روغنون أن خطة داوس لم تحلّ المشكلة من جذورها، لكنها وفّرت فترة استقرار ساعدت في استعادة الثقة وتهيئة المناخ للإصلاحات الأوسع لاحقًا. وتُظهر هذه التجربة كيف يمكن لتدخل دولي مدروس، قائم على إعادة هيكلة الديون وضخ السيولة والاستثمار في المؤسسات، أن يشكّل رافعة اقتصادية حقيقية، حتى في أكثر السياقات هشاشة، وهي دروس يمكن الاستفادة منها عند النظر في مسارات التعافي الممكنة لبلدان خارجة من صراعات طويلة، كسوريا اليوم.
ويضيف روغنون: “الاستقرار المؤسسي، وحكم القانون، وضبط التضخم، كانت مفاتيح النهوض أكثر من مجرد ضخ الأموال”، مشيرًا إلى أن النهوض الألماني لم يكن سحريًا، بل اعتمد على منظومة قيم ومؤسسات فعالة.
الواقع السوري والدرس الألماني
يرى الباحث الاقتصادي السوري حسن حيدر العيلي أن ما عاشته ألمانيا يشبه، في بعض ملامحه، ما تمرّ به سوريا اليوم، خاصة فيما يخص الانهيار النقدي وفقدان الثقة بالعملة. لكنه يضيف: “ألمانيا بُنيت على أنقاض واحدة، تحت سلطة موحّدة، وضمن بيئة دولية داعمة. أما سوريا، فهي تعاني من تشظٍّ سياسي، ومؤسسات متهالكة، وبنية تحتية مدمّرة”.
ومع ذلك، لا يخفي العيلي تفاؤله المشروط، مؤكدًا أن سوريا تمتلك “نفطًا، وزراعة، وموارد بشرية شابة في الداخل والشتات، وهي مقوّمات إن أُحسن استخدامها، يمكن أن تنقل البلاد إلى مسار التعافي”.
ويقترح العيلي خارطة طريق مستلهمة من التجربة الألمانية، تبدأ بإصلاح العملة وربطها بسلة إنتاج أو عملات واقعية، مرورًا بإعادة هيكلة الديون الخارجية بالتفاوض مع الدائنين والمنظمات، ووصولًا إلى توفير حماية اجتماعية متوازنة بين الحرية الاقتصادية والرعاية للفئات الضعيفة، يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل فيها دور ريادي. كما يشدّد على أهمية بناء مؤسسات قضائية وإدارية فعالة ومستقلة لجذب الكفاءات السورية من الشتات، ما يشجع على بناء شراكات دولية بالتوازي مع إصلاحات بنيوية.
ويختم العيلي بالقول: “المعجزات لا تُورّث، لكنها تُصنع. وألمانيا لم تنجُ لأنها حصلت على دعم، بل لأنها أعدّت نفسها جيدًا لاستثماره”.
من فرد إلى مشروع وطني
عودة سعيد مسوتي المحتملة ليست قصة فردية، بل عنوان لسؤال جماعي مطروح على السوريين: هل نعيد البناء؟ هل نملك مشروعًا اقتصاديًا، كما امتلكته ألمانيا في لحظة الصفر؟ الجواب لا يأتي من النوايا وحدها، بل من السياسات والمؤسسات والاستثمار في الإنسان.
أرقام تختصر القصة
تشير بيانات الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا إلى تحولات دراماتيكية مرتبطة بالسياقات السياسية والتاريخية. ففي عام 1933، ومع صعود النظام النازي، بلغ الناتج المحلي نحو 26.96 مليار دولار. وبعد أربع سنوات فقط، وبفضل سياسات التسلّح والإنفاق العام، نما الاقتصاد بنسبة تقارب 55% ليصل إلى 41.8 مليار دولار عام 1937.
لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية وما تبعها من دمار أدى إلى تقلبات حادة، حيث بلغ الناتج 34.07 مليار دولار في ذروة الحرب عام 1942، ثم انخفض إلى 27.99 مليار دولار مع نهاية الحرب في عام 1945.
في المقابل، يعكس الاقتصاد الألماني الحديث قصة نجاح لافتة. فبعد عقود من إعادة الإعمار والتكامل الأوروبي، بلغ الناتج المحلي 4.16 تريليون دولار في عام 2022، ثم ارتفع إلى 4.53 تريليون في 2023، مع توقعات بتجاوز 5 تريليونات دولار في عام 2024.
هذا النمو يعكس قوة القاعدة الصناعية، والقدرة التصديرية، والبيئة المؤسسية المستقرة، التي جعلت من ألمانيا واحدة من أكبر اقتصادات العالم وأكثرها تأثيرًا.https://www.syria.tv/%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%A4%D9%84-%D9….