قراءة في المشهد السياسي لسوريا وجوارها الإقليمي

بعد إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا الاتحادية ، والعملية الإرهابية التي استهدفت المدنيين في ضواحي موسكو في الـ 22 من آذار 2024والتي أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا ، واتهامات مدير الأمن الفدرالي الروسي لأوكرانيا والمخابرات الغربية بالوقوف خلف العملية ، وتصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص الحرب في أوكرانيا وتقديم المزيد من الدعم الأوربي والأمريكي للجانب الأوكراني، يبدو جلياً أن ساحات الصراع التي تشكل روسيا طرفاً فيها ستشهد تصاعداً خطيراً في العنف والصدام ، وقد تؤدي إلى استخدام أنواع جديدة من الأسلحة الأشد فتكاً وتدميراً ، مايعني بأن دائرة الأزمات سوف تكبر ، والفوضى سوف تعم وتشمل مساحات جديدة ، وآفاق الحلول تبدو مغلقة أكثر من أي وقت مضى ، وأن العالم بأسره ينزلق نحو تكرار حروب كونية شاملة ومدمرة فيما إذا لم يخرج رجال بمستوى وعي الرئيسين جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف اللذين نزعا فتيل حرب عالمية كانت على وشك الاندلاع في صيف 1962 تلك الأزمة المعروفة بأزمة الصواريخ الكوبية. وبما أن سوريا أصبحت مركزاً وعقدةً تتشابك وتلتقي فيها الأطراف الدولية والاقليمية مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران واسرائيل وحلفاء كل طرف فإن المشهد السوري تطور بشكل مأساوي فمنذ الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في منتصف آذار 2011 في إطار ماسميت بثورات الربيع التي بدأت سلمية جماهيرية بريئة بنفس وطني سوري ثم ما لبثت أن تحوَّلت من حراك شعبي إلى ثورة شملت القسم الأكبر من مساحة سوريا، وكسبت تعاطف المجتمع الدولي والقوى المحبة للخير والسلام ، لكن نتيجة غياب قيادة وطنية ناضجة للحراك، والتحالف الذي حصل بين بعض أجنحة الأسلمة السياسية والوافدين من الأجهزة الأمنية لنظام البعث وانزلاق الاحتجاجات السلمية إلى مستنقع العنف، وتحول الصراع من صراع بين الشعب الثائر من جهة والاستبداد من جهة أخرى، إلى صراع بين مختلف الأدوات الحاملة للسلاح وبروز مظاهر حرب أهلية، وتطهير طائفي في العديد من المناطق. وخرجت المبادرة من أيدي السوريين الذين هُجروا قسراً من بيوتهم، وتحول حاملوا السلاح إلى مجرد أدوات عاملة بالوكالة، تقاتل نيابة عن المتدخلين في الميدان السوري . وانقسم البلد إلى مناطق نفوذ للقوى الاقليمية والدولية ، فأصبح الوضع كارثياً ، والأزمة أصبحت مستعصية، والأمل أصبح ضئيلاً إن لم نقل مفقوداً أو معدوماً، وأصبحت المعارضات المختلفة تعيش حالة من الإفلاس العام والتام. ولاننسى هنا الدور السلبي للقوى الاقليمية وميليشياتها الطائفية، وكذلك تخاذل المجتمع الدولي، الذي فضل إدارة الأزمة على حلها . ولا يوجد حتى هذه اللحظة تصور مشترك حول سبل الخروج من الأزمة أواتفاق على كيفية الحل وطبيعته على المستوى الوطني السوري . ومشكلة السوريين ليست مع النظام وسلطات الأمر الواقع المختلفة فقط ، بل المشكلة الأكبر تكمن في المعارضات والمنصات والمجالس المختلفة التي تطرح نفسها كبدائل سورياً . بمعنى أننا كسوريين أصبحنا أمام مشهد واضح تماماً وهزيمة شاملة للدولة بمؤسساتها المختلفة وكذلك للنخب بإنتماءاتهم (معارضة و موالاة)، بما فيها منصات المجتمع المدني التي انقسمت هي الأخرى وتوزعت على طرفي الصراع . أمام هذه اللوحة السوداوية هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح على السوريين وهو : ماهي الخيارات الواقعية المتاحة أمامنا كي ننطلق من جديد ونلملم أشلائنا ونتشاور ونتفاعل ونلتقي مع بعضنا ، ونترفع فوق الجراحات التي أحدثتها ستة عقود من الإلغاء والإقصاء والشوفينية ، وأكثر من 13 عاماً من القتل والكراهية، وندفع بقضية وطننا إلى مستوى النقاش والاهتمام اللائق بها، وبذهنية مختلفة تماماً عن ذهنية البعث والأسلمة السياسية المتطرفة، ونسعى من خلال نقاش هادئ وهادف لطرح أفكار واقعية لتوليد رؤى من شأنها بلورة تصورات لمشروع وطني سوري تغييري واقعي جامع وشامل يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري المختلفة ووفق مفردات الشراكة والتوافق لإعادة إنتاج سوريا اتحادية جديدة بنظام ديمقراطي يقف على مسافة واحدة من جميع تلك المكونات ؟. واقليمياً هناك سباق محموم من جانب اللاعبين الأساسيين لجهة الاستحواذ على أكبرمساحة في اللوحة المستقبلية للمنطقة ، حيث الاتفاقيات التي تسعى إليها تلك الأطراف ( اسرائيل وإيران وتركيا ) مع مختلف الجهات للفوز بأكبر حصة من النفوذ . والمشاورات التركية – العراقية ليست بعيدة عن ذلك ، والمحاولات الخجولة من جانب بعض الدول الخليجية في الوقت” بدل الضائع ” في الاهتمام بالقضية السورية بحجة عدم تكرار تجربة العراق في سوريا . وتقييم الحرب في غزة وكأنه صراع بين اسرائيل وحماس فقط هو تقييم فيه من التسطيح والسذاجة ، لأن ملفات المنطقة كلها متداخلة، وتلك الحرب هي حرب تحريك للكل المتشابك، ولايمكن النظر إلى بؤرة صراع واحدة بمعزل عن بقية المواقع والأزمات. ولعل السلوك المعادي لغالبية القوى الشيعية الحاكمة في بغداد وفي مقدمتها الإطار التنسيقي الشيعي والميليشيات الولائية ضد اقليم كوردستان، وتهرب تلك القوى من تطبيق المواد الدستورية ولاسيما المادة (140 ) الخاصة بالمناطق الكوردستانية التي مازالت خارج الحدود الإدارية للاقليم والتي تسمى زوراً بالمناطق المتنازع عليها وكذلك المادة ( 149 ) الخاصة بتشريع قانون للنفط والغاز وممارسات ماتسمى بالمحكمة الاتحادية التي تحولت إلى مايشبه مجلس قيادة الثورة خلال مرحلة حكم البعث التي تهدف تقزيم الكيان الفدرالي الدستوري للاقليم ومن ثم إلغائه ودفع الامور على الساحة العراقية عامة والعلاقات بين اقليم كوردستان والحكومة الاتحادية إلى مسارات قد تؤدي إلى نهايات غير حميدة وربما تضع مصير العملية السياسية ومنظومة الحكم القائمة على كف عفريت. وماموقف الديمقراطي الكوردستاني من انتخابات برلمان كوردستان والعملية السياسية إلا جرس إنذار بأن الامور تسير نحو مستنقع الصدام إذا لم تنتصر إرادة العقل على ذهنية الإقصاء والتهميش . لأن ماتسعى إليها الميليشيات الشيعية الولائية الحاكمة هوإعادة استنساخ النظام الشمولي السابق بلون طائفي جديد !. وبالتالي إن لم تكن هناك ضغوطات أمريكية فعلية على إيران وأدواتها الحاكمة في بغداد لإيجاد مخارج واقعية للأزمة فإن العملية السياسية في العراق برمتها تصبح في خبر كان. وجدير ذكره أن كل مايجري في المنطقة من استقطابات ونزاعات على علاقة مباشرة مع الصراع القائم بين القوى الاقليمية والدولية المذكورة على مستقبل المنطقة وثرواتها .
والمشهد الكوردي السوري ليس أفضل من المشهد السوري العام سواءً لجهة المتحكمين في الميدان (حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية) وكذلك الموجودين في الضفة الأخرى ( المجلس الوطني الكوردي والأحزاب والأطر الموجودة خارجه)، ويستمر الحال والافتقاد إلى مرجعية حقيقية جامعة وشاملة ومعبرة عن طموحات الشعب الكوردي ، وكل هذه السنوات رغم التضحيات الجسيمة لم تنتج ماهو ملموس كمنتج ومكسب يتناسب مع حجم تلك التضحيات ، ولا نمتلك بين أيدينا أي شيء ملموس بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من انطلاقة الاحتجاجات الشعبية يمكن أن نعتمد عليه في الأيام القادمة، لأن كل ماهو قائم قد يتبخر بنفخة هواء إذا حصل نوع من إعادة التموضعات العسكرية للمتدخلين في الميدان السوري . كل ذلك نتيجة توزع مكونات الحراك الحزبي بغالبيته الساحقة على المحاور الكوردستانية لدرجة الاندماج !. وبالتالي إبقاء المشهد الكوردي السوري الذي هو في محصلته جزء من المشهد السوري بتفاصيله وتعقيداته في حالة من الجمود والمراوحة في المكان والبقاء خارج مساحة الفعل. باختصار هذا الواقع يستوجب على الكورد السوريين من متصدري المشهد ومن مختلف الخنادق الإقرار بالفشل، ومن ثم تشخيص الواقع ومواجهته كما هو، وتغيير طريقة التفكير وبالتالي الرؤية، والبحث الجاد عن سبل مختلفة وكفيلة بإعادة الاعتبار للشخصية الكوردية السورية، والشرعية لحركتنا التحررية، والعمل وفق قواعد العمل السياسي، والالتزام بضوابط وأخلاقيات حركات التحرر الوطني، والتحرر من الأغلال التي تضعها في أيدينا وأعناقنا الجهات المانحة للمال السياسي، والخروج من القوالب الجامدة والجاهزة التي ندور فيها، والعمل على تشكيل مرجعية كوردية سورية جامعة ومعبرة عن مصالح كورد سوريا بعيداً عن الصراعات بين الأطراف والمحاور الكوردستانية، والاستفادة من الطاقات الكوردية التي مازالت موجودة ، وما شاهدناه من مظاهر إحياء مناسبات آذار من قبل أبناء شعبنا الكوردي ، وكذلك تفاعل وتأييد من قبل نخب سورية من مختلف المكونات وفي مختلف مواقع التواجد الكوردي السوري سواءً في الداخل أو في الخارج يجب أن يشكل دافعاً قوياً للانطلاق من جديد وبشكل مختلف ، والتأسيس مع الطيف المتنوع لمكونات الشعب السوري لأرضية مناسبة لطي حقبة الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي بكل السوريين ولكل السوريين .
في الـالـ 29 من آذار 2024
المكتب التنفيذي
لـحركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا