العنف كأثر للاستعصاء السياسي: السلطة الجديدة في سوريا ومأزق غياب التوافق الوطني

محمد عباس
في أعقاب انهيار النظام السوري السابق وتفكك بنيته السلطوية، تشكّلت سلطة جديدة كأمر واقع، بفعل تحولات ميدانية وعسكرية واجتماعية متراكمة، لا نتيجة لمسار سياسي تفاوضي يُعبّر عن توافق وطني شامل. هذا التحوّل المفاجئ في طبيعة السلطة لم يرافقه حتى اليوم أي تصوّر جامع لمفهوم الدولة، ولا عقد اجتماعي جديد يحدّد العلاقة بين السلطة والسكان، ولا حتى تمييز واضح بين ما هو محلي وما هو مركزي في إدارة الشأن العام. في ظل هذا الغياب، تتكثف مظاهر التفكك والتوتر، وتتحول الصراعات المحلية إلى نقاط اشتعال قابلة للانفجار عند أدنى احتكاك، كما شهدنا مؤخرًا في السويداء وجرمانا وصحنايا.
غالباً ما تُفسّر هذه الأحداث بعوامل مباشرة، كحادثة الخطف التي وقعت على طريق السويداء بين شبّان من المدينة وبعض عشائر البدو، أو التسجيل الصوتي المسيء للنبي محمد، المنسوب زورًا لأحد أبناء جرمانا. غير أن هذه التفسيرات، وإن استندت إلى وقائع ملموسة، تتجاهل أن تلك الحوادث لم تكن سوى شرارات فجّرت ما هو أعمق وأكثر رسوخًا: انسداد سياسي، واحتقان اجتماعي، وغياب لأي أفق تفاوضي جامع.
التحليل الموضوعي لهذه الحالات يقتضي التمييز بين السبب المباشر والسبب الجذري. ففي بيئة مثل البيئة السورية، التي تعاني منذ سنوات من ضعف في الثقة المتبادلة بين السلطات المتعاقبة والمجتمع، وانعدام في التمثيل السياسي، وتآكل للمؤسسات التقليدية التي كانت تضبط التوترات، تصبح مثل هذه البيئة قابلة للانفجار في أي لحظة. لا يحتاج الأمر إلى أكثر من شرارة — سواء كانت حادثة خطف، أو إساءة رمزية، أو حتى شجار شخصي — حتى تتحول المسألة إلى اقتتال طائفي أو عرقي واسع النطاق. هذا النمط من التفجّر سبق أن شهدناه في لبنان، حيث اندلعت خلال الحرب الأهلية اشتباكات مسلّحة بسبب حوادث بسيطة، كخلاف على محطة وقود أو مشاجرة بين أطفال، في ظل هشاشة النظام السياسي وغياب أدوات الضبط المؤسساتي.
ما يزيد من خطورة هذه الشرارات في سوريا اليوم هو أنها تحدث في لحظة انتقال غير مكتمل، لا يحمل فيها أحد شرعية سياسية كاملة، ولا توجد فيها مرجعية وطنية جامعة يمكن أن تتولى الوساطة أو التهدئة. فالمشكلة الجوهرية في السويداء، كما في غيرها من مناطق الأطراف، ليست أمنية أو جنائية بالمعنى الضيق، بل سياسية بامتياز. ما نشهده هو تعبير مباشر عن استعصاء سياسي عميق، وعن غياب فعلي لحوار وطني يتيح للقوى السياسية والاجتماعية التفاوض حول مطالبها وصياغة تفاهمات تؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار.
السلطة الجديدة، بوصفها نتاجًا لتحولات ميدانية، وجدت نفسها أمام تحديات تتجاوز إدارة الخدمات أو فرض الأمن، فهي مطالبة بلعب دور محوري في إعادة بناء دولة لم تعد قائمة. وهذا يستدعي منها مقاربة مختلفة تمامًا عن النهج التقليدي الذي مارسه النظام السابق، والذي اعتمد على القمع والتهميش وإغلاق أبواب التفاوض والحوار.
من الضروري التذكير بأن العديد من مكونات المجتمع السوري — كالكرد في الشمال والشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويين في الساحل، وشرائح من السنة والمسيحيين في المدن الكبرى — لم تعد ترى نفسها ممثلة في نموذج الدولة المركزية الذي تتبناه السلطة الجديدة. وإذا لم تُجرِ هذه السلطة مراجعة شاملة لتعريف علاقتها بهذه المكونات، فإن الهوّة بينها وبين المجتمع ستزداد اتساعًا. فالمطالب المطروحة، سواء تعلّقت باللامركزية، أو بالحكم الذاتي، أو بالحماية المحلية، أو بالضمانات الثقافية والدينية، هي مطالب قابلة للنقاش، وقد تكون محل خلاف، لكن خطورتها لا تكمن في مضمونها فحسب، بل في أن طرحها يجري خارج أي فضاء سياسي شرعي. وغياب هذا الفضاء يدفع الأطراف نحو خيارات بديلة، بما في ذلك السعي لفرض المطالب بالقوة، أو التواصل مع جهات خارجية، أو رفض الخضوع لمنطق سلطة مركزية لا تعترف بها.
في غياب الحوار، يصبح العنف هو البديل العملي للتفاوض، وتتحوّل السيطرة الأمنية إلى اللغة الوحيدة المتاحة لمن يريد أن يحكم. والنهج الذي يعتمد على “بسط السيطرة” بالقوة على مناطق لا تتفق سياسيًا مع مركز السلطة قد يحقق نتائج آنية، لكنه لا يخلق عقدًا اجتماعيًا، ولا يعيد بناء الثقة، بل يؤسس لجولات جديدة من القمع والانتهاك، ويُبقي الاحتقان السياسي والاجتماعي قائمًا تحت الرماد. وربما يفرض هذا النهج هدوءًا مؤقتًا، لكنه لن يمنع عودة العنف عند أول تغير في موازين القوى، أو عند شعور الجماعات المحلية بأنها باتت بلا خيارات سوى المواجهة.
الأسوأ من ذلك، أن هذا الأسلوب يعيد إنتاج نفس المنطق الذي قاد إلى الانفجار السوري في الأصل: منطق القوة بدل السياسة، والإقصاء بدل الشراكة، والهيمنة بدل التمثيل. لذلك فإن المطلوب من السلطة الجديدة ليس إعادة إنتاج أدوات الضبط القديمة، بل الانخراط الجاد في مشروع تأسيسي وطني، يبدأ بالاعتراف بتعدديّة المجتمع السوري، وبشرعية مطالبه المختلفة، وبضرورة بناء نظام سياسي جديد يقوم على التمثيل والمشاركة.
وهذا لا يعني بالضرورة تبنّي كل مطلب يُطرح من أي جهة، بل يعني على الأقل فتح فضاءات سياسية حقيقية للتفاوض، وخلق مؤسسات قادرة على الوساطة والتمثيل، وصياغة نموذج حكم لا يقوم على الغلبة، بل على الشراكة. من دون ذلك، ستبقى سوريا محكومة بسلسلة من الفوضى والانفجارات المؤجلة، والحلول الأمنية قصيرة الأمد، التي لا تخلّف سوى مزيد من العنف والانقسام.
إن السلطة الجديدة، بحكم نشأتها غير التوافقية، مطالَبة ببذل جهد مضاعف لبناء توافق وطني، لا الاكتفاء بفرض الأمر الواقع. فالشرعية لا تُكتسب من السيطرة على الأرض فحسب، بل من الاعتراف المتبادل بين السلطة والمجتمع، ومن القدرة على تمثيل مصالح السكان، وتنظيم خلافاتهم، وضمان أمنهم وكرامتهم. وفي غياب ذلك، لن تكون أي سلطة قادرة على ترسيخ الاستقرار، ولن يكون لأي مشروع سياسي قابلية للاستمرار

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس