إيران بعد القصف: بداية النهاية أم هندسة السقوط البطيء؟

محمد عباس
تُشكّل المواجهة الجوية الأخيرة بين إيران وإسرائيل، والتي تخللتها ضربات أمريكية دقيقة استهدفت منشآت نووية إيرانية استراتيجية، تحولاً نوعياً في مسار النزاع الإقليمي والدولي مع ايران. ورغم أن هذه الحرب بدت قصيرة زمنياً ومحدودة جغرافياً، إلا أن آثارها الاستراتيجية العميقة لا يمكن حصرها في نتائجها العسكرية المباشرة، بل هي جزء من عملية سياسية وأمنية أوسع، تستهدف إضعاف النظام الإيراني وإعادة تعريف دوره ووظائفه في المنطقة، وربما في المدى الأبعد، تهيئة الظروف لتغيير جذري في طبيعة هذا النظام.
إن الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت مواقع نووية حساسة في نطنز وأصفهان وفوردو، لا يمكن قراءتها كاستجابة طارئة لتطورات أمنية فحسب، بل باعتبارها امتداداً لنهج استراتيجي طويل الأمد اتبعته الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما الغربيون، يقوم على تقويض قدرات إيران الردعية وتقييد طموحاتها النووية من دون اللجوء إلى تدخل بري شامل. هذا النهج يعكس تحوّلاً في التفكير الجيوسياسي الغربي الذي أصبح أكثر ميلاً إلى العمل غير المباشر، ويفضّل تفكيك القوة المعادية عبر مراحل من الإنهاك والتآكل المؤسسي، بدلاً من الاعتماد على الحسم العسكري السريع والمكلف.
المثير في هذه العملية أنها استهدفت القدرات النووية دون المساس بالمراكز السيادية الكبرى للنظام، أو بالمؤسسات الأمنية التي تُعد العمود الفقري لسلطته. وهذا الانتقاء الواضح للأهداف يرسل رسالة مزدوجة: فمن جهة هو تحذير شديد بأن الخطوط الحمراء النووية لم تعد قابلة للتجاوز، ومن جهة أخرى هو تأكيد ضمني على أن هدف الغرب ليس بالضرورة إسقاط النظام في هذه المرحلة، بل دفعه إلى التراجع وإعادة التموضع الإقليمي. غير أن هذه المقاربة التي تُسوَّق سياسياً بوصفها “إدارة أزمة” تنطوي في حقيقتها على منطق إستنزاف مُمنهج، يشبه إلى حد بعيد السياسات التي اتُّبعت في العراق بعد عام 1991، فالولايات المتحدة، ومعها مجلس الأمن الدولي، فرضت حينها على نظام صدام حسين حزمة صارمة من العقوبات الاقتصادية، ترافقها عمليات قصف جوي مركزة استهدفت البنية التحتية العسكرية والصناعية، ومنشآت مشتبه بها تتعلق بإنتاج أسلحة الدمار الشامل. لم يكن الهدف آنذاك إسقاط النظام العراقي بشكل مباشر، بل إضعافه إلى الحد الذي يُفقده قدرته على التهديد ويجعله عاجزاً عن الاستمرار في خطه التوسعي أو الردعي. غير أن هذه الاستراتيجية، مع مرور الزمن وتراكم آثارها، أفضت إلى هشاشة داخلية كانت كافية، في لحظة سياسية دولية مناسبة، لتبرير الحسم العسكري الكامل عام 2003.
يبدو أن إيران اليوم تقف على عتبة مسار مشابه، لكن أدواته أكثر دقة وتدرجاً. فالعقوبات الاقتصادية المعمقة، والانهيار المتواصل في العملة المحلية، وارتفاع معدلات البطالة، وتزايد الاحتجاجات الشعبية، كلها مؤشرات على بيئة داخلية تتجه نحو مزيد من التآكل. وإذا أضيف إلى ذلك تفكيك تدريجي للبنية النووية والقدرات الردعية عبر الضربات الدقيقة، فإن النتيجة ستكون بمرور الوقت تحوّل إيران إلى “دولة مقيّدة” استراتيجياً، عاجزة عن الحفاظ على التوازن بين الداخل والخارج، بين القوة والشرعية، وبين العقيدة السياسية ومتطلبات البقاء.
لكن من اللافت أن هذا السيناريو لا يفترض التدخل العسكري المباشر، كما حدث في العراق، بل يتكئ على فكرة “السقوط من الداخل”، أي خلق بيئة سياسية واقتصادية وأمنية خانقة، تدفع بمراكز القوى داخل النظام إلى الانقسام أو الاضمحلال، وتفتح المجال أمام قوى المعارضة لتقديم نفسها بديلاً سياسياً محتملاً. وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: هل تمتلك المعارضة الإيرانية، بتشطيرها الأيديولوجي وخلافاتها التاريخية، القدرة على التوحد في مشروع وطني جامع؟ وهل لدى المجتمع الدولي رؤية واضحة لما بعد النظام، أم أن الضغط الجاري اليوم ينطوي على مخاطرة بفتح فراغ سياسي قد يؤدي إلى فوضى أو تفكك، كما حصل في ليبيا وسوريا؟
رغم هذه الهواجس، فإن الرهان الغربي، كما يبدو، يقوم على نظرية التدرج: إضعاف ثم عزلة، ثم تقويض داخلي، وأخيراً انتقال سياسي متفاوض عليه أو مفروض من الداخل. في هذه الحالة، تصبح المعارضة الإيرانية بجميع أطيافها مطالبة بتجاوز خطاب الإدانة والشتات، والانتقال إلى مرحلة بناء مشروع سياسي واضح المعالم، يتضمن تصوراً واقعياً لمرحلة ما بعد النظام، يطمئن الداخل الإيراني، ويخاطب الخارج بلغة مؤسساتية لا شعاراتية.
إن الحرب الجوية التي اندلعت مؤخراً، وما تلاها من ضربات أمريكية دقيقة، لا تمثل نهاية مواجهة عسكرية فحسب، بل قد تكون بداية فعلية لمشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل المشهد الإيراني برمته. فالتاريخ أثبت أن الضربات الجوية، حين تكون جزءاً من رؤية سياسية شاملة، لا تكتفي بتحقيق نصر ميداني، بل تمهّد لتحولات جذرية في بنية السلطة والشرعية. وما حدث في العراق قبل أكثر من عقدين ليس إلا مثالاً على ذلك. واليوم، تبدو إيران وكأنها تتحرك ضمن مسار مشابه، عنوانه الأول إضعاف، والثاني إعادة صياغة، وربما الثالث، إسقاط من دون حرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس