السلطة بين الديكتاتورية والطائفية: قراءة في سلطة حافظ وبشار الأسد

بقلم المحامي محمد عباس
منذ أكثر من نصف قرن، يحكم سوريا نظام ارتبط اسمه بعائلة الأسد، بدءًا من حافظ الأسد عام 1970، وصولًا إلى ابنه بشار. وعلى امتداد هذه العقود، ظل السؤال حاضرًا: هل هذا النظام طائفي في جوهره، أم ديكتاتوري يستخدم الطائفة كأداة؟ هذا السؤال ليس ترفًا سياسيًا، بل مفتاح لفهم طبيعة السلطة في سوريا، وأسباب استمرارها رغم العواصف الداخلية والخارجية، وأيضًا أسباب هشاشتها البنيوية التي ظهرت مع اندلاع الثورة السورية عام 2011.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، قاد حافظ الأسد ما عُرف بـ”الحركة التصحيحية”، ليضع حدًّا لصراعات داخل حزب البعث، ويؤسس لنظام حكم فردي مطلق. من اللحظة الأولى، كان الأمن هو العمود الفقري للنظام، وحزب البعث واجهته السياسية، فيما جرى تحييد مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أدوات في يد السلطة. ومع توريث الحكم لابنه بشار عام 2000، بعد تعديل دستوري استغرق نصف ساعة فقط، لم يحدث أي تحوّل ديمقراطي، بل تعمّقت الطبيعة الأمنية والسلطوية للنظام.
بعد عام 2011، شاع توصيف النظام بأنه “طائفي علوي”، مدعوم بوجود شخصيات علوية في قمة الأجهزة الأمنية. لكن هذه الصورة، رغم احتوائها على جزء من الحقيقة، تبسط المشهد أكثر مما ينبغي. فالواقع أن النظام حافظ على واجهة سنية واسعة في المؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية، بحيث يتولى شيوخ سنّة بارزون تمثيل الخطاب الديني الرسمي، مثل محمد سعيد رمضان البوطي وأحمد كفتارو وأحمد بدر الدين حسون. هذه الواجهة لم تكن عشوائية، بل جزء من استراتيجية متقنة لكسب رضا الأكثرية السنية وتفادي الصدام معها.
دراسة تركيبة النخبة السياسية والعسكرية تكشف أن الولاء الشخصي كان أهم من الانتماء الطائفي. أسماء مثل مصطفى طلاس، عبد الحليم خدام، محمود الزعبي، وفاروق الشرع، كلهم سنّة شغلوا مناصب حساسة، وأداروا أجهزة الدولة والأمن بصرامة تضاهي نظراءهم العلويين. حتى وزارة الدفاع، التي يُظن أنها حكر علوي، تولاها شخصيات سنية، بل وحتى مسيحية كداوود راجحة. بالمقابل، استُبعدت أو صُفّيت شخصيات علوية بارزة مثل صلاح جديد ومحمد عمران ورفعت الأسد، لمجرد الشك في ولائها.
النظام لم يتبنَّ خطابًا طائفيًا علنيًا، لكنه استخدم الانتماءات الطائفية في تشكيل دائرة “أهل الثقة” خاصة في الأجهزة الأمنية العليا، التي ظلّت في الغالب بيد ضباط علويين من محيط القرداحة. هذا التوازن المزدوج — واجهة سنية واسعة، ونواة أمنية علوية ضيقة — سمح للنظام بالتحكم في المجتمع عبر شبكة ولاءات متقاطعة، دون أن يعلن نفسه ممثلًا حصريًا لطائفة بعينها.
أما إذا ما نظرنا إلى الطرف الأكثر تهميشا واضطهاداً فهو المكون الكردي، فقد كان مهمش المشاركة في إدارة الدولة وكذلك في الاعتراف بخصوصيته الغير عربية من ناحية أخرى، فقد كان يعاني تهميشًا ممنهجًا يرقى إلى الإقصاء الوجودي. ففي عهد حافظ الأسد، بقي مئات الآلاف من الكرد مجردين من الجنسية السورية في إحصاء عام 1962، وتم تعريب أسماء القرى الكردية، ومنع استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام ولم يكن هناك اي اعتراف لا دستوري ولا حتى أمر واقع بالوجود الكردي في سوريا، وفرض قيود مشددة على النشاط السياسي الكردي. واستمرت هذه السياسات في عهد بشار الأسد، رغم بعض التعديلات الشكلية بعد عام 2011، مثل منح الجنسية لجزء من المجردين من الجنسية، لكنها لم تصل إلى مستوى الاعتراف بالحقوق الدستورية والسياسية للمكون الكردي، بل تم توظيف هذه القضية أمنيًا ضمن علاقات النظام مع تركيا أو كأداة ضغط داخلية.
من خلال هذا المسار، يمكن القول إن نظام الأسد لم يكن طائفيًا أيديولوجيًا، ولا وطنيًا شاملًا، بل نظام سلطوي هجيني، يجمع بين حكم الفرد، وشبكة أمنية ذات نواة طائفية، وتحالفات براغماتية مع قوى من طوائف أخرى. هذا المزيج سمح له بالاستمرار عقودًا، لكنه زرع بذور الانقسام والضعف في المجتمع والدولة.
اليوم، وبعد أكثر من أربعة عشر عامًا على الثورة، وسقوط سلطة النظام، بات واضحًا أن نموذج الحكم القائم على احتكار السلطة والثروة والنفوذ في يد فئة محدودة لم يعد قابلًا للحياة. إعادة بناء سوريا لن تتحقق بعقلية الأجهزة الأمنية أو بسياسات الإقصاء الطائفي أو القومي، بل بفتح المجال لكل مكونات الشعب — عربًا وكردًا، سنّة وعلويين، دروزًا ومسيحيين، مسلمين وعلمانيين — للمشاركة في القرار على أساس المواطنة المتساوية، والعدالة الانتقالية، والديمقراطية التشاركية اللامركزية.
إن تجاوز إرث الأسدية لن يكون بإلباسه ثوبًا جديدًا، بل بتفكيك بنيته السلطوية، وصياغة عقد اجتماعي يعترف بالمظلومية، ويضمن الحقوق، ويحوّل التنوع إلى مصدر قوة لا إلى أداة للانقسام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس



