آراء و ومقالات

بداية التحول الكردي نحو شراكة وطنية في سوريا الجديدة، قراءة في التوقيت، المضامين والتحديات

مؤتمر قامشلو: بداية التحول الكردي نحو شراكة وطنية في سوريا الجديدة، قراءة في التوقيت، المضامين والتحديات


محمد عباس

انعقد اليوم في مدينة قامشلو، عاصمة الوجدان الكردي السوري، مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي، ليشكل محطة فارقة في التاريخ السياسي لسوريا ما بعد الاستبداد. البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر لم يكن مجرد كلمات احتفالية، بل جاء بمثابة إعلان سياسي متزن، يعكس وعياً قومياً عميقاً بمتطلبات المرحلة، وواقعية مدروسة تجاه تعقيدات المشهد السوري الراهن. بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، فتحت أمام الشعب السوري، وللمرة الأولى منذ عقود، نافذة حقيقية لإعادة بناء وطنه على أسس ديمقراطية. في هذا السياق، كان لزاماً على الكرد أن يحجزوا لأنفسهم موقعاً يليق بتضحياتهم الهائلة عبر سنوات الثورة والنضال الوطني.

البيان الختامي، وهو نتاج حوارات مكثفة امتدت لشهور بين الأحزاب والمنظمات والمستقلين الكرد، يمثل خارطة طريق سياسية واضحة المعالم. فالتشديد على وحدة سوريا، ورفض أي مشاريع انفصالية، يضع الكرد في قلب المشروع الوطني السوري، لا على هامشه. هذه الرسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى باقي المكونات السورية، لإزالة أي هواجس قد تكون مترسبة بفعل عقود من الدعاية البعثية المعادية للحقوق القومية. في ذات الوقت، البيان يؤكد على التعددية القومية والدينية والثقافية، ما يعني أن الكرد يطالبون بحقوقهم ليس كأقلية تبحث عن حماية، بل كمكون وطني أصيل يريد شراكة حقيقية في إدارة البلاد.

ما بين سطور البيان، تبرز ملامح تطور نوعي في الفكر السياسي الكردي السوري. لم تعد القضية الكردية تُطرح فقط بلغة المظلومية والحقوق المسلوبة، بل بلغة المسؤولية السياسية والمساهمة في صياغة عقد اجتماعي جديد لكل السوريين. إن صياغة رؤية سياسية كردية مشتركة، والتأكيد على الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، يعكسان إدراكًا عميقًا بأن أي مشروع كردي ناجح يجب أن يتقاطع مع القيم الكونية للحرية والمساواة والديمقراطية. هذا الربط بين الخاص الكردي والعام السوري والدولي، يمنح المشروع الكردي مصداقية أكبر على المستويين الداخلي والخارجي.

في هذه اللحظة الحساسة التي تمر بها سوريا، تكتسب دعوة المؤتمر إلى تشكيل وفد كردي مشترك أهمية استراتيجية قصوى. ففي غياب وفد موحد يعبر عن الصوت الكردي الجامع، سيكون من السهل على القوى الأخرى تهميش المطالب الكردية أو التعامل مع الكرد كمجموعة متنازعة ضعيفة. لذا، فإن هذه الخطوة، إذا ما كُتب لها النجاح، قد تشكل تحولاً تاريخيًا في قدرة الكرد على فرض أنفسهم طرفًا تفاوضيًا وطنيًا ذا وزن.

رغم اللغة الإيجابية والعقلانية للبيان، فإن التحديات التي تواجه تطبيق رؤيته تبقى جسيمة. أولى هذه التحديات تتمثل في القدرة على الحفاظ على وحدة الصف الكردي الداخلي. فالتجارب السابقة علمتنا أن الخلافات الأيديولوجية والتنظيمية بين القوى الكردية يمكن أن تنفجر في أي لحظة، مما يُضعف الموقف الكردي برمته. التحدي الثاني يتمثل في مواقف القوى السورية الأخرى، التي قد لا تكون جميعها جاهزة بعد لتقبل شراكة حقيقية مع الكرد، خصوصاً القوى ذات النزعة القومية العربية التقليدية.

أما على الصعيد الإقليمي، فإن مسألة كيفية تطويق التدخلات الخارجية، خاصة التركية، تشكل تحديًا استراتيجيًا لا يمكن الاستهانة به. فالبيان تجنب الدخول في تفاصيل تتعلق بالعلاقات مع دول الجوار، مكتفياً بالتأكيد على احترام سوريا الجديدة لعلاقاتها الإقليمية والدولية. هذه اللغة الحذرة تعكس إدراكاً لحساسية الموقف، لكنها أيضاً تترك فراغًا قد تسعى بعض القوى إلى استغلاله.

من ناحية أخرى، فإن اختيار قامشلو لعقد المؤتمر ليس مجرد تفصيل جغرافي، بل هو إشارة رمزية عميقة. هذه المدينة، التي ظلت عبر عقود عنوانًا لصمود الكردي السوري، باتت اليوم منصة لإطلاق مشروع سياسي كردي سوري جامع. إن اختيارها يحمل رسالة أن الكرد باقون في أرضهم، مصممون على أن يكونوا جزءاً من مستقبل سوريا، لا غرباء عنها ولا أدوات لمشاريع خارجية.

بمعنى آخر، هذا المؤتمر لم يكن فقط محاولة لرص الصفوف الكردية، بل أيضاً رسالة مفتوحة إلى السوريين والعالم، بأن الكرد، الذين عانوا من الاضطهاد القومي لعقود، يتقدمون اليوم برؤية إنقاذية لسوريا كلها، تقوم على المساواة والعدالة والديمقراطية.

ما بعد هذا المؤتمر ستكون الأيام مليئة بالاختبارات الصعبة أمام الكرد في سوريا. رغم أن البيان حمل في ظاهره وحدة صف ورؤية سياسية ناضجة، إلا أن التحدي الحقيقي سيبدأ مع محاولات ترجمة هذه الوثيقة إلى وقائع عملية. إذ أن الحفاظ على الروح الجماعية التي ظهرت في قامشلو يتطلب آليات تنفيذية دقيقة، ومؤسسات مشتركة قادرة على إدارة الخلافات الطبيعية التي قد تظهر بين القوى المختلفة. تشكيل وفد مشترك هو خطوة أولى فقط، ولكن الأهم هو كيفية بناء آلية قرار جماعي بين هذه الأطراف دون الوقوع في فخ الصراعات الداخلية التي طالما أضعفت الحركة الكردية سابقاً.

على المستوى الوطني السوري، دخول الكرد إلى طاولة الحوار مع بقية المكونات السياسية الجديدة لن يكون بالأمر السهل. فالمزاج السياسي في سوريا ما بعد الأسد لا يزال مائعًا وغير متبلور بالكامل، وتوجد قوى عديدة تحمل رؤى متناقضة حول شكل الدولة الجديدة، بين من يريد دولة مركزية قوية، ومن يرى أن الفيدرالية أو اللامركزية هي السبيل الوحيد لإنقاذ وحدة البلاد. من بين هذه التباينات، على الكرد أن يظهروا براعة دبلوماسية فائقة، عبر تثبيت رؤيتهم للدولة اللامركزية كخيار وطني شامل، لا كمطلب كردي خاص، كي لا يتم عزلهم أو تحجيم مطالبهم تحت ذريعة حماية وحدة سوريا.

اللاعب الإقليمي والدولي سيكون حاضرًا بقوة في هذه المرحلة. تركيا، التي تنظر بعين الريبة إلى أي تحرك كردي، قد تسعى إلى إفشال الجهود الكردية نحو تمثيل سياسي موحد وفاعل، سواء عبر الضغوط المباشرة أو عبر دعم أطراف معارضة للكرد داخل سوريا. كذلك النظام الإيراني، الذي لا يزال يحتفظ بنفوذ عسكري وسياسي في بعض المناطق السورية، قد لا ينظر بعين الرضى إلى أي مشروع يعزز من قوة الكرد السياسية. أما الدول الكبرى، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهي تنظر عادة بإيجابية إلى أي قوة سياسية تلتزم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يمنح الكرد فرصة مهمة لكسب دعم دولي إذا ما تمكنوا من المحافظة على خطابهم المعتدل والبناء.

الأهمية الكبرى لمؤتمر قامشلو تكمن في التوقيت. ففي اللحظة التي تنهار فيها أنظمة الاستبداد وتتفكك بنيات الطغيان، تكون الفرص التاريخية متاحة لإعادة ترتيب التوازنات الوطنية على أسس جديدة. ولكن الفرص، كما هو معروف، لا تنتظر كثيرًا. فإما أن ينجح الكرد في فرض وجودهم السياسي عبر وحدة صفهم وحكمة تحركهم، أو أن تضيع هذه اللحظة، كما ضاعت فرص سابقة في تاريخهم، بسبب الانقسامات أو الحسابات الخاطئة.

ما بين سطور البيان تظهر ملامح وعي عميق بأن القضية الكردية ليست قضية كردية فقط، بل هي قضية سورية عامة. تأكيد المؤتمر على ضرورة بناء سوريا ديمقراطية تتسع للجميع هو بمثابة تطمين واضح للمكونات الأخرى، ورسالة ذكية تقول إن الكرد لا يريدون اقتسام الغنائم، بل يريدون إعادة بناء الوطن المشترك. هذا الفهم العميق، إذا ما وُجدت الإرادة لترجمته إلى تحالفات وطنية واسعة، قد يجعل من الكرد حجر الزاوية في تأسيس سوريا الجديدة، دولة مدنية تعددية لا مكان فيها لهيمنة قومية أو دينية أو طائفية.

ولكن الطريق سيكون محفوفًا بالعقبات. فليس كل القوى السورية مستعدة حتى الآن للاعتراف بالواقع الكردي، ولا كل القوى الإقليمية مستعدة لتقبل أن يصبح للكرد دور مركزي في أي معادلة إقليمية قادمة. من هنا تأتي الحاجة الملحة لأن يكون الخطاب الكردي ذكياً، يجمع بين وضوح الحقوق وعدم الاستفزاز، بين التمسك بالمبادئ والانفتاح على الحوار، بين الواقعية السياسية والالتزام الأخلاقي.

مؤتمر قامشلو، بما حمله من مضامين، إذا ما قُرئ جيدًا وتم البناء عليه بشكل منهجي، قد يكون الخطوة الأولى نحو تحقيق ما حلم به أجيال من الكرد السوريين: الاعتراف الدستوري بحقوقهم القومية، وضمان مشاركتهم الكاملة والمتساوية في إدارة وطنهم. ولكن ذلك يتطلب أن يدرك الجميع، كرداً وغير كرد، أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالذكاء والصبر والإصرار، وأن النضال السياسي الحقيقي يبدأ بعد المؤتمرات، لا بها.

بهذا المعنى، فإن مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي في قامشلو، يمكن أن يُسجل في صفحات التاريخ الكردي والسوري كنقطة تحول، شريطة أن يحسن القائمون عليه إدارة المرحلة التالية بحكمة بالغة، وإلا فإن الانتكاسات قد تكون قاسية ومكلفة. فالتاريخ لا يرحم من لا يحسن قراءة لحظاته الفارقة

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى