بيانات و توضيحات

قراءة في المشهد السياسي لسوريا وجوارها الإقليمي


يبدو أنّ ملامح اللوحة الشرق أوسطية المستقبلية سيكون فيها الصراع والتجاذب بين مراكز القوى الاقليمية الثلاثة إيران وتركيا وإسرائيل على حساب الدور العربي الذي بدأ يتراجع بعد موجة الاحتجاجات الشعبية التي سميت بثورات الربيع في المنطقة ، وفشل النخب ( الحاكمة والمعارضة ) في إيجاد حلول سياسية واقعية لقضايا شعوبها، وتحول غالبية تلك البلدان التي وصلتها موجة الاحتجاجات إلى بؤر توتر وجذب للمتطرفين ،وخروج بذور التطرف المدفونة في أعماقها إلى السطح، وإغراق تلك المساحات في مستنقعات العنف والإرهاب، الأمر الذي أدى إلى حدوث ردات فعل أدت إلى إعادة الأوضاع في غالبيتها إلى المربع الأول، وإعادة استنساخ دكتاتوريات جديدة – قديمة على حساب البدائل الديمقراطية التي كانت تطمح جماهير المحتجين لإقامتها . وكذلك الحرب في غزة وتحريكها للملفات المتداخلة ، بمعنى أنه ستكون الصراعات الاقليمية المستقبلية بين الأطراف الثلاثة المذكورة متداخلة – متوافقة – متناقضة ولن يخلو الأمر من صدامات في بعض الأحيان وبعض المواقع من خلال الوكلاء وكل ذلك بحضور ومتابعة أمريكية مستمرة وسط انشغال الروس في الحرب مع الجانب الأوكراني، ودور وموقع كل طرف ونصيبه من موارد طرق التجارة العالمية الآتية من الصين والهند . هذه التحولات قد تؤدي إلى نوع من التغيير في منظومة الأمن الاقليمي وبنيتها، وتشهد المنطقة منظومات أمنية جديدة، وأشكال حكم مختلفة نسبياً عن تلك التي حكمت المنطقة لعدة عقود . وقد تشمل التغيرات الكثير من المفاهيم والمصطلحات الايدولوجية بما في ذلك طبيعة الأعداء والخصوم وستتعرض بعض المنظومات الغير متجانسة لعملية تفكك مثل : منظومة العمل العربي المشترك ومنظمة العمل الإسلامي …إلخ، وستحل محلها بنى أمنية وتحالفات سياسية – اقتصادية ومحاور جديدة ، سيكون لإسرائيل دور محوري واضح فيها . وماتشهده المملكة العربية السعودية من تغيرات ستؤدي إلى حدوث تحولات جذرية في الوعي العربي الرسمي بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ، وكل تلك التحولات تأتي ضمن استراتيجية الشرق الأوسط الجديد ، حيث ستحل إيران محل إسرائيل في كل مايتعلق بـ ” العدو الأوحد المحتمل ” من جانب الشارع العربي وبالتالي فإن هندسة الصراعات في المستقبل ستكون على هذا الأساس . بمعنى آخر نستطيع القول بأن المنطقة برمتها مابعد حرب غزة لن تكون كما كانت قبل هذه الحرب .
وبعد أيام سنكون على موعد مع ذكرى انطلاقة الاحتجات الشعبية التي تكمل عامها الثالث عشر وسط تحول سوريا إلى دولة فاشلة تماماً منقسمة فعلياً إلى مناطق نفوذ تركية وأمريكية وروسية وإيرانية بالإضافة إلى حلفاء المتدخلين المذكورين من دول وميليشيات مذهبية وشركات أمنية ومسلحين متطرفين من شتى أصقاع الأرض في ظل نظام بعثي متعنت لايقبل بأي حل سياسي، ومعارضة ضعيفة لا تمتلك حتى هذه اللحظة رؤية واقعية لمشروع وطني سوري تغييري جامع ومختلف عن مشروع البعث القوموي والأسلمة السياسية، الأمر الذي يحتم ويستوجب على النخب الوطنية السورية ومن مختلف المكونات اللقاء والالتقاء خارج المنصات التي فشلت ، والعمل على تبني رؤية وطنية سورية جامعة أساسها الشراكة والتوافق على خلاص الشعب وإخراجه من مستنقع العنف والإرهاب وطي صفحة الاستبداد والتأسيس لسوريا اتحادية جديدة وإقامة البديل الوطني الديمقراطي الذي يقف على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية ، والتأسيس لأرضية وبيئة مناسبة لخروج كافة الغرباء والوافدين من دول وميليشيات وأفراد من سوريا، وتحقيق تطلعات شعبنا ، وإقامة دولة الحق والقانون والحريات الديمقراطية . بدون أدنى شك أن تحقيق تلك التطلعات مرهون بمدى وعي وجدية وإخلاص النخب الوطنية المؤمنة بسوريا الجديدة المختلفة عن سوريا البعث وخلافة الأسلمة السياسية ، وبمدى إيمان وقناعة تلك النخب بضرورة القطع مع من تسبب في تدمير سوريا ونسيجها الاجتماعي ، وبقناعتها والإقرار بأن التنوع القومي والديني والمذهبي هو عامل ثراء وليس عامل فرقة وضعف. وبمدى قناعة تلك النخب بأن المعارضة الرسمية بمختلف منصاتها ومسمياتها فشلت تماماً في التعبير عن طموحات الشعب السوري الطامح للخلاص من الاستبداد ، وبأن المعارضة العسكرية بتشكيلاتها القائمة لاتعبر عن أهداف الشعب السوري بل تحولت إلى مجاميع متصارعة همها الأول والأخير التعفيش والسيطرة على ممتلكات المهجرين ، وكيفية تقاسم تلك الممتلكات وليس حماية الشعب وممتلكاته . وعلى تلك النخب أن تعلن بشكل واضح بأن كل مايجري من لقاءات ومؤتمرات باسم السوريين لا يعبر عن أهداف شعبنا ، وإنما عبارة عن تفاهمات بين المتدخلين في سوريا للحفاظ على مصالحهم نتيجة خروج المبادرة من أيدي السوريين بشكل شبه كامل، وافتقار غالبية الأطر السياسية – التنظيمية ( موالاة ومعارضة ) للقرار الوطني المستقل . وأن مايجري هو انحراف تام لوجهة الصراع من صراع بين الشعب السوري و نظام البعث إلى صراع بين الأدوات المسلحة المنفلتة على ثروات سوريا وممتلكات شعبها . وبكل أسف ونحن نقترب من ذكرى انطلاقة الاحتجاجات الشعبية فإن المشهد سوداوي وأقرب إلى الإقرار بالهزيمة من جانب المتصدرين للمشهد المعارض . وبالتالي فإن الأزمة ستبقى دائرة في حقول التأجيل، والتقسيم الميداني سيبقى قائماً والصراع سيستمر على المعابر ومصادر المال على حساب قضية السوريين والحلول السياسية الوطنية للأزمة .
ومن الأهمية التأكيد هنا بأن الهجمات المستمرة التي تستهدف اقليم كوردستان العراق سواءً من جانب الميليشيات الإرهابية الولائية المنضوية في إطارمايسمى بالحشد الشعبي وفيلق القدس للحرس الثوري الإيراني ، والضغوطات التي تمارسها ماتسمى بالمحكمة الاتحادية التي تتحول يوماً بعد يوم من حيث الممارسة إلى مايشبه مجلس قيادة الثورة لنظام البعث الصدامي المقبور حيث تحاول – المحكمة الاتحادية – محاصرة الاقليم ومحاولة تقويض كيانه الدستوري ومحاربة شعب كوردستان في لقمة عيشه . وجدير ذكره أن كل تلك الممارسات ليست بعيدة عن الصراع القائم بين القوى المذكورة التي تتصارع على المنطقة .
والمشهد الكوردي السوري الذي هو في محصلته جزء من المشهد السوري بتفاصيله وتعقيداته فإنه هو الآخر يعاني من الجمود والمراوحة في المكان والبقاء خارج مساحة الفعل حيث لايزال حزب الاتحاد الديمقراطي pyd متفرداً ومتحكماً بمفاصل المجتمع وبقرار الحرب والسلم وفشل في تشكيل منظومة حوكمة رشيدة قائمة على أساس الشراكة الحقيقية وإخراج ماتبقى من مناطق كوردستان سوريا من دائرة الصراعات الاقليمية الغير سورية الأمر الذي جعل من المنطقة التي يسيطر عليها بيئة غير آمنة وطاردة لسكانها الكورد الأصليين وذلك نتيجة تحكم كوادر العمال الكوردستاني بمختلف مؤسسات الإدارة الذاتية وتداعيات وجود تلك الكوادر على المدنيين نتيجة الصراع الدموي بين العمال الكوردستاني والجيش التركي منذ عقود. والمجلس الوطني الكردي هو الآخر مازال فاقداً لقراره السياسي الأمر الذي أدى إلى تحوله لـ جسم هزيل وضعيف وغير فعال . باختصار كورد سوريا أمام جملة تحديات عليهم التنبه لها والعمل على مواجهتها لأنها تتعلق بوجودهم القومي لأن هذا الوجود أصبح مهدداً ، وضرورة التفكير بشكل مختلف عن الحقبة السابقة ، والبحث عن السبل الكفيلة بإعادة الاعتبار للشخصية الكوردية السورية ، والعمل على تشكيل مرجعية كوردية سورية جامعة ومعبرة عن مصالح كورد سوريا بعيداً عن الصراع بين الأطراف والمحاور الكوردستانية، والبحث عن المشتركات مع ممثلي مكونات الشعب السوري المختلفة ضمن الإطار الوطني السوري .
في الـ 3 من آذار 2024
المكتب التنفيذي
لـحركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى