آراء و ومقالات

من تحت الدلف لتحت المزراب، سلسلة اخفاقات متتالية وليس آخرها الإعلان الحكومي …

محمد عباس

من ما يسمى بمؤتمر تنصيب أحمد الشرع رئيساً إلى مؤتمر الحوار الوطني، إلى تشكيل لجنة لإعداد الإعلان الدستوري، إلى الإعلان الدستوري نفسه، واليوم الإعلان الحكومي، كلها حلقات من مسلسل الإخفاقات التي انتهجتها هذه السلطة منذ توليها زمام الأمور. لم تكن أي من هذه الخطوات تحمل في جوهرها نية حقيقية للإصلاح أو التغيير، بل كانت مجرد محطات شكلية تهدف إلى شرعنة حكم الفرد وإضفاء مظهر قانوني على استبداده المطلق. إن هذه الممارسات لا تختلف عما قام به النظام السابق، حيث استخدمت العناوين الكبرى مثل “الإصلاح السياسي” و”الحوار الوطني” كغطاء لمزيد من التمكين للسلطة الحاكمة دون أي تغيير حقيقي في بنية النظام.
حقيقةً إن إعلان الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع لم يكن مفاجئاً ولم يكن اخفاقاً جديداً، وإنما هو حلقة من السلسلة الإخفاقية السابقة، ولكنه ظهر جليًا أن النهج الذي اتبعه هو مجرد استمرار لسياسات النظام السابق، بل وتطوير لها باتجاه تعزيز القبضة الحديدية على السلطة. إن الممارسات التي كانت سائدة في عهد بشار الأسد لا تزال قائمة، لكن مع تعديلات تخدم تعزيز السيطرة المطلقة لأحمد الشرع وهيئته الحاكمة، “هيئة تحرير الشام”، مما يجعله يتخطى سلفه في الانفراد بالحكم وإقصاء أي شكل من أشكال المحاسبة. فمنذ عقود، اعتمد النظام السوري على سياسة منح بعض الحقائب الوزارية لشخصيات من خلفيات متعددة لإظهار التنوع السياسي والعرقي، إلا أن هذا التوزيع لم يكن يومًا سوى واجهة شكلية، حيث ظل النفوذ الحقيقي محصورًا في يد الحزب الحاكم وأجهزته الأمنية. اليوم، يكرر أحمد الشرع نفس السياسة، حيث احتفظ بالوزارات السيادية ضمن سيطرة “هيئة تحرير الشام”، مما يجعله يعزز سلطته بآليات أكثر إحكامًا.
على مدى عقود كانت الحكومات السورية المتعاقبة تتبع نهج توزيع الحقائب الوزارية بطريقة توحي بوجود تمثيل واسع للمكونات المختلفة، إلا أن السلطة الفعلية بقيت مركزة في يد فئة محددة تدين بالولاء للنظام. منذ عهد حافظ الأسد ثم بشار الأسد، كان هناك دائمًا وزير من أصول كردية، وآخر من الطائفة الدرزية، وأحيانًا شخصيات من أصول تركمانية أو غيرها، لكنهم لم يكونوا يوماً يمثلون مكوناتهم، و لم يكن لهم أي تأثير حقيقي، بل كانوا مجرد ديكور سياسي يضفي شرعية مزيفة على السلطة.
اليوم يواصل أحمد الشرع هذا التقليد، حيث يوزع بعض الحقائب الوزارية على شخصيات تنتمي إلى مكونات سورية متعددة، لكن الواقع أنهم مجرد واجهة لتجميل سلطته أمام الرأي العام الدولي، إذ إن القرار النهائي يبقى في يد رئيس الدولة وهيئته الحاكمة. الأمر الأكثر خطورة هو أن هذه المنهجية لم تعد تقتصر فقط على توزيع الحقائب الوزارية، بل أصبحت سياسة شاملة تشمل كافة مفاصل الدولة، حيث تم تصميم النظام السياسي الجديد بطريقة تمنع أي شكل من أشكال المحاسبة أو الرقابة.
إن أحد أبرز التغييرات التي أضافها أحمد الشرع مقارنة بسلفه هو احتفاظه بمنصب رئيس الوزراء إلى جانب رئاسة الجمهورية، مما يجعله الحاكم المطلق للدولة دون وجود أي توازن في السلطات.
في الأنظمة الاستبدادية التقليدية، عادة ما يتم الفصل الشكلي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لضمان وجود مساحة ولو محدودة لمحاسبة الحكومة، إلا أن أحمد الشرع ألغى حتى هذا الحد الأدنى من التوازن، حيث قام بصياغة إعلان دستوري يمنحه سلطات مطلقة، بما في ذلك تعيين أعضاء مجلس الشعب، مما يجعل المجلس مجرد هيئة صورية لا تملك أي سلطة فعلية. إن هذا النهج لا يعني فقط استمرار الاستبداد، بل تعزيزه إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يصبح الحاكم فوق أي مساءلة، حتى لو ارتكب جرائم جسيمة مثل الخيانة العظمى. في ظل هذا النظام، لا يوجد أي إطار قانوني يمكن من خلاله محاسبة الحاكم، وهو ما يعني أن القرارات المصيرية للبلاد أصبحت مرهونة بالكامل بإرادة فرد واحد.
إن استمرار النهج الاستبدادي في سوريا يثبت أن التغيير الحقيقي لم يكن يومًا مدرجًا على أجندة أي من القادة الذين تعاقبوا على السلطة. فمنذ بداية الأزمة السورية، كانت هناك آمال بأن يؤدي الحراك الشعبي إلى إعادة تشكيل النظام السياسي بطريقة تضمن الحد الأدنى من الديمقراطية والمساءلة، إلا أن ما حدث هو العكس تمامًا. بدلاً من تفكيك الدولة الأمنية، تمت إعادة إنتاجها بأساليب جديدة، حيث أصبحت السلطة أكثر تركزًا في يد الحاكم، وأصبحت القوانين مصممة لخدمته فقط. لم يعد الأمر يتعلق فقط بمن يترأس الوزارة، بل أصبح مرتبطًا ببنية السلطة نفسها، التي ترفض أي شكل من أشكال الإصلاح الحقيقي.
إن المستقبل القريب لا يوحي بأي تغيير جوهري، فالنظام الجديد لم يظهر أي نية لإعادة هيكلة الدولة أو السماح بأي مشاركة سياسية حقيقية. على العكس من ذلك، فإن كل المؤشرات تدل على أن السيطرة المطلقة ستستمر، وأن أي محاولة للخروج عن هذا الإطار ستُقمع بشدة. وبالنظر إلى تجارب الدول الأخرى التي شهدت أنظمة استبدادية مماثلة، فإن النتيجة الحتمية لمثل هذه السياسات هي المزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية، حيث لا يمكن لأي نظام يعتمد على القمع واحتكار السلطة أن يحقق الاستقرار على المدى البعيد. لذلك، فإن استمرار هذا النهج في سوريا يعني أن البلاد ستظل عالقة في دوامة من الأزمات، دون أي أفق واضح لحل سياسي حقيقي. والمستقبل الذي ينتظر السوريين بجميع مكوناتهم يبدو غير مشرق على الإطلاق.
بالإضافة إلى الاستبداد السياسي الذي ترسخ بشكل غير مسبوق، سيكون هناك استبداد ديني وطائفي أيضًا، حيث ستتحكم الأيديولوجيات المتشددة في مفاصل الحكم، مما سيجعل جميع السوريين يعانون من القمع والتضييق، وأول الضحايا سيكونون أولئك الذين ينتمي إليهم هذا النظام، حيث ستتحول السلطة إلى أداة تستخدمها الفئة الحاكمة ليس فقط للهيمنة السياسية، بل أيضًا لفرض رؤيتها العقائدية والمذهبية على المجتمع السوري بأسره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للحركة.
محمد عباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى